الجمعة، 31 ديسمبر 2010

lموسم الفراشات الحزين"رواية"


موسم الفراشات الحزين

رواية

أسامة حبشي

إهداء أول:

لى محمود درويش.. وردة بحجم وطن

إهداء ثان:

إلى زوجتي وأمي وأبى ومازن

*

البئر والتين

كان جدي يجلس هناك.. في مواجهة البعيد.. من ورائه المخيم ومن أمامه الغياب..

ينظر وحيدًا باتجاه وطن كان لنا، رأس جدي يكاد يغوص في حجره، لم يكن هناك أحدٌ بهذه التلة الصغيرة غيره، الشمس قد اختفت...

اقتربت وجلست بجانبه، وقلت دون أن أنظر إليه:

مساءٌ جديدٌ سيحلّ بمخيمنا.

تأمّلت بحرص المخيم الذي هو أسفل "التلة"، تأمّلته خيمة خيمة.. وتأمّلت الخيام المجاورة لخيمتنا عن اليمين وعن الشمال، وكذلك بعض الفتحات التي تتفرع من خيمة لأخرى مشكّلة شوارع ضيقة لوطن أسّس على عجل؛ فوجدت فتحات صامتة حزينة، كأنها جدران تشعرك فقط بألم داخليّ، وقفت واتجهت قليلا

للأسفل وأنا أجرّ ذلك الإحساس المرعب معي؛ بحثًا عن بيتٍ مختلف أو عن خيمة من فرح كما كان من قبل في قريتنا، نظرت مجددًا لعمق الفتحات من الغرب ومن الشرق، ثم عاودت النظر لبيتنا / خيمتنا، الإحساس هو هو.. لم يتغير!!

ولم يخفّ بعض الشيء!!

هناك شيء ما خفيّ قابض للروح، شيء أخرس لا يبوح إلا بألم شديد، ألم يصعب على طفل استيعابه وتحمله، نعم كان هناك بعض الأشياء التي قد تساعدك أو تتخيل أنها تساعدك على الهروب من هذا الإحساس المقزز.. البشع!!

وهناك أناس.. وحياة تبدأ في التفتح كزهرة حزينة.. وحيدة.. منسية من صاحبها وراعيها، وهناك أيضًا ملابس بألوان مختلفة لم تجفّ بعد، ساكنة لا تتحرك، منشورة أمام وعلى الخيام، هناك كمٌ من الأحلام يجري هنا وهناك، هناك كانت الشمس منذ قليل، أخيرًا.. استسلمت للصمت.

ثم نظرت لجدي الذي لا يزال رأسه يغوص في حجره، أنا هنا في منتصف المسافة.. أغوص في غياب حاضر أمامي.. أغوص في جدي ومنزلنا الذي كان...

تفصلني عن جدي بضع خطوات - مسافةٌ قليلة - ولكن.. ما هي المسافة؟

و.. لماذا تحل بي الآن؟ هل المسافة - فقط - تقاس بالخطوات والأمتار.. أم ببعد الروح عن الجسد أيضًا؟

الخطوات ثقيلةٌ يا جدي، كنت بالفعل عاجزًا عن السير، سواء للوراء أو للأمام، أود الوصول لجدي، ولكن قدميّ اللعينتين لا تطاوعاني، وددت أن أصرخ مناديًا إياه و...

آمره:

قم وساعدني في السير إليك.

لم أتفوه بحرفٍ، خضعت للصبر.. وهدّأت من نفسي عندما قلت هامسًا:

من المؤكد أنه.. إذا كان هنا أطفال يلعبون الآن؛ لما وقعت فريسة في شِرك هذا الإحساس المرير، وصلت أخيرًا وجلست مرة أخرى بجانبه، ولكني كنت مستفزًا من انحناء رأسه ذلك.

لذلك؛ نظرت باتجاه ما ينظر إليه بحجره، وكانت المفاجأة لي؛ فلم يكن جدي نائمًا كما كنت أظن، وإنما كان ينظر فراشة استقرت في حجره؛ فسألته:

ماذا تفعل يا جدي؟

قال: أونس الفراشة يا ولدي.

كان جدي في أواخر الثمانين من عمره، يتمتع بصحة جيدة.. وكذلك الذاكرة، أذكر أنه لم يعانِ من مرض ما، وإنما يشكو دائمًا من انحناءة الظهر، وذلك شيء عادي في الشيخوخة، جدي يدعى ياسين أو.. الشيخ ياسين - كما ينادونه هنا في بلدتنا.

سألت جدي مجددا:

أما لها أن تطير أفضل؟

فأجاب: ألا ترى.. إنه موسم حزين يا ولدى!!!

كانت إجابته بالنسبة لي كالصاعقة، لا فيما يخص الفراشة؛ وإنما في كلمة حزين، فأنا كنت أفكر منذ دقيقة في الحزن والألم، عندما كنت أنظر للجدران والمنازل.. فهل كان يعرف جدي فيما كنت أفكر؟ أم هو إحساس عام اليوم؟ أم أن الحزن هومجرد صدفة بلدتنا الجديدة.. أقصد مخيمنا؟ أم أن بلدتنا هي الصدفة العابرة في حزن دائم.

بفضول طفولي.. سألته مرة أخرى:

أي موسم يا جدي.. وأين بقية الفراشات؟

أجاب الشيخ ياسين - دون النظر لي، ودون فعل أي حركة، حرصًا منه على عدم إزعاج هذه الفراشة:

موسم الفراشات يا ولدي، ألا ترى السماء؟!! كم هي مليئة بدخانٍ كثيف!!... أمّا الأخريات؛ فقد هربت؛ حيث الزهور هناك غرب الشمس.

سألت - بحدة - معترضًا على نبرة جدي في الحديث:

ولماذا لم تهرب هي الأخرى؟

قال جدي بصبر وسكينة:

إنها مريضة يا ولدي...

فلاحقته بسؤال آخر - قبل أن يغوص في صمته مرة أخرى:

ولماذا تهرب.. أليست الشمس وبعض الزهور هنا ؟

أراد جدي أن ينهي حديثه عندما رد بحسمٍ وحزن:

هذه ليست بلدتنا.. إننا ضيوف يا ولدي.

(2)

حقيقة الأمر؛ كان صعبًا عليّ ملاحقة جدي بالأسئلة.. لا لشيء يخصه؛ وإنما يعود الأمر إليّ.. فقد كنت مريضًا، إذ ولدت بعيبٍ في النطق - يقول عنه البعض "التهتهة"، و- أيضًا - لدي حرفان لا أستطيع نطقهما أبدًا؛ هما الراء واللام، كل كلمة بداخلها اللام والراء أجد صعوبة في النطق بها، ومع ذلك.. أعتبر أنني محظوظً؛ لأنني لا أنطق كلمات: الحرب - السلام - النار.

نعم.. أعرف رسم هذه الكلمات، وأعرف أن أخطّها، أتخيلها، ولكنني لا أنطق بها أبدًا نطقًا كالآخرين، وأحيانًا أشعر بالحزن والضعف عندما أنطق كلمات أخرى بصورة مشوهة.. مثل: وردة \ فراشة \ زهرة \ بحر، وكنت محظوظًا - أيضًا - منذ ولادتي هكذا؛ فقد أكسبتني عاهتي حب الآخرين، وبخاصة عائلتي، وعندي مشكلة أخرى.. هي أن لي قدمًا أطول من الأخرى قليلًا، لذلك؛ أعرج عندما أمشي، ولا أستطيع الجري بحرية- كسائر الأطفال.

كنت في التاسعة من عمري، وكنت قد ولدت هناك في قريتنا.. على الجانب الآخر من المخيم، نحن الآن في منتصف السنة الثانية بعد الإبعاد والحرب، أقصد حرب 48.. حرب النكبة - كما يقولون، الهدنة أعلنت أمس - أقصد هدنة الإبعاد، كنت أذهب إلى مدرستي وأرى الزيتون صباح مساء، وجدي كان والبئر شيئًا واحدًا.

أتحدث العربية والعبرية، وبعض الإنجليزية وأحب القراءة، أعرف أنني كنت محظوظًا لذلك، وأدرك أننا نعيش في ظل احتلال من العدو، ولكن أدرك - أيضًا - ما لا يستطيع أي شخص آخر - خارج بلادنا - أن يدركه، وهو أن كل شيء هنا عاجز عن تسمية نفسه:

المخيم \ الاستشهاد \ الفجر \ العودة \ الخلاص \ السلام \ الحرب \ الجنون \ البحر \ المدفع \ الحمامة \ الدبابة....

الجبل \ التل \ الأرض...

الزيتون \ العقل \ الجنون \ البنت \ الحلم...

الآخر \ أنا.

نعم.. لا يدرك ذلك من لم يعش تجربتي، فنحن هنا اختلاط الضروري بـ الـلا ضروري، نحن انصهار العادي بـ اللا عادي، نحن نضع الخبز بجانب الموت، نضحك ونبكي، ونفهم الحجر - هكذا تقول أمي:

بالحجر نبني.. وبالحجر نحلم.. وفي الحجر نشم رائحة الخبز وأولادنا.

(3)

رجعت بتفكيري وحواسي إلى جدي الماكث بجانبي.. وبعد فترة من الصمت سألته:

وأين هي بلدتنا من هنا يا جدي.. هل تراها الآن؟

قال:

خلف الجبل بمواجهة حقول الزيتون والتين.

سألت مرة أخرى.. فقد كنت أريد إجابة أخرى مقنعة لطفل فضوليّ بطبعه:

جميع البلدان بها جبلٌ وزيتون يا جدي؟

قال - وكان صوته أجمل من مرتل قرآن:

تعلّم ألا تسأل عن الأسماء يا بني، اتبع الفراشات، فبلدتنا هناك حيث أول الريح، وحيث تستقر الفراشات حول البئر.

جدي كان في حالة غريبة.. لا ينطق بجملة إلا وتخصّ الفراشة، كنت أستشعر بكاء جدي غير المرئي، وأستشعر - أيضًا - أنه الآن شخص آخر غير الذي هو عليه دائمًا، كأنه يحادث أحدًا، من ينظر لجدي في هذه اللحظة يتوقع العادي واللا عاديّ في آنٍ، كأمّ تخرج ثدييها وترضع الفراشة حليبًا من حنين، أو أنه يتحسسها كامرأة حبيبة.. عادت إليه بعد طول غياب، أو أنه يحمّم الفراشة بلطف.. كأنّه يحمّم ضناه الأوحد.

لذلك؛ قلت له - محاولًا الفهم أكثر، ومحاولًا أن أحصل منه على شيء لي، شيء يعينني على التقرب من هذا الغياب المطلق والحنين الأبدي في عيون مُزارعٍ هرم هو جدي:

يا جدي.. أيمكن أن تكون هنا بلادنا؟

قال:

لا.. بلدتك لا تخصّك وحدك، وإنّما تخصّ أباك ووالد أبيك وجدك وأجداد جدك، وهكذا.. إلى أول النسل، أتفهم ذلك يا بني؟

فأيقنت ما ودّ جدي إيصاله إليّ.

(4)

فصل الصمت بيني وبين جدي مرة أخرى، أعرف أن جدي يأتي إلى هذه التلة من أجل الصمت كهدف في حد ذاته، ثم تتفرع أحيانًا أهدافٌ أخرى فرعية، يأتي جدي ويكون قليل الكلام وحزينًا، يأتي كل يوم يجلس طويلًا ويعود إلينا مع أول الليل، ثمانية عشر شهرًا وهو هكذا، أما أنا؛ فمن آن لآخر أجيء إلى هنا رغبة في استرجاع سنواتي الأولى التي لا أملك غيرها، متذكرًا بيتنا ومن كانوا بجانب حقلنا هناك، بالأخص رجلًا يدعى أبراهام، كان يهوديًا جميلًا.. كأول الخلق دائمًا، يتحدث العربية بطلاقة، لا تشعر أبدًا أنه من ديانة أخرى، كان الصاحب الأول لجدي، وكان مبتسمًا دائمًا لي، كثيرًا ما يلجأ لجدي عندما تستعصي عليه الأرض، فهو لم يكن مزارعًا ماهرًا مثل جدي، ولم يكن لديه حقل، وإنما مساحة بداره أشبه بحديقة صغيرة.

جدي كانت له حقول كثيرة، وأحيانًا كان جدي يلجأ إلي أبراهام عندما يفشل في المسائل الحسابية، وأعتقد أن ذلك كان سببًا مباشرًا في فشل جدي بالتجارة أيضا، أبراهام كانت له حفيدة في مثل عمري، تعيش وحدها مع الجد، فقد كان الابن - أقصد الأب لسارة - غريب الأطوار وعنيفًا، ذات ليلة مضى ولم يرجع، كنت وسارة كالتين والزيتون، يجاور بعضنا بعضًا.. ولكن كلًا منا يثمر على حدة، أي على طريقته الخاصة.

عاد جدي من صمته البعيد وسألني:

ألا تزال ترغب العودة لمدرستك؟

قلت: نعم

قال: غدًا يوم آخر... وصمت مرة أخرى، لكن هذه المرة لم يدم صمته كثيرًا؛ حيث إن الليل قد زحف كثعبان خبيث، وشرع جدي في العودة للمخيم الحزين، استند جدي عليّ بيد.. وباليد الأخرى كانت الفراشة، تحركنا للأسفل ببطء وانكسار - كالعادة، ليل جديد في وطن بديل وخيمة من حليب، ولكن.. كيف الحليب دون حقلٍ وعنزٍ وبئر!!

(5)

أبي كان عكس جدي.. فهو استطاع أن يجد عملًا.. كـ مزارع، فقد ورث ذلك عن جدي، ومثل أبي.. هناك أناسٌ استطاعوا أن يجدوا العمل، وباختصار.. تستطيع أن تقول إنهم قد تأقلموا مع هذا الوضع الجديد.. والبلد، ولكن على الرغم من كل هذا؛ فلم يفقد أحد المفتاح الذي بجيبه، كم كانت كثيرة هذه المفاتيح التي تدل على منازل هناك، كان الجميع يحتفظ بمفتاح منزله بجيبه أو في رقبته، يختلس النظر إليه أحيانًا في أوقاته الصعبة الحزينة.

كانوا يتأملون مفاتيحهم.. كـ الزوج الذى يتأمل عروسه بأول يومٍ من الزواج.. في رغبة للحظة قادمة.. وندمًا علي لحظات مضت، الحقيقة.. أن الأمور بالمخيم كانت صعبة جدًا في البداية، سواء على الطرف المضيف أو علينا، وكان الغريب أننا رغم تحدثنا لغة واحدة هي اللغة العربية، فإنه بداية.. كان الطرفان كأنهما لم يسمعا عن اكتشاف اسمه اللغة، والأغرب.. أن كل طرفٍ عندما يتحدث مع الآخر.. فإنه يجد سيلًا من اللغة كأنه هو المكتشف الأول لما يسمى اللغة.

أمي.. وهي قريبة لأبى وابنة عمه، كانت مثلي مولودة بعاهة هي الأخرى، فأمي ولدت بذراع أوحد، أما الآخر فلم تعرفه يوما ما.. سواء عندما كانت في بطن أمها، أو عندما خرجت منه، ومع ذلك؛ فكانت تصنع جميع الأشياء، تصنعها بذراع أوحد دون مساعدة من أحد، كانت عنيدة شيئًا ما.. أمي، وكانت جميلة جدًا، جمالها يُنسي من ينظر إليها أحيانًا أنها بذراع أوحد، وأحيانًا هذا الجمال يجبر من ينظر إليها على البكاء.. نتيجة عدم وجود الذراع الآخر،اليوم تحديدًا كانت أمي تمارس واجبها تجاه المخيم، حيث إن اليوم هو ورديتها...

في رعاية السيدة المعمرة "أم مريم"، تلك التي هي أكبر من بالمخيم سنًا، كانت وحيدة، فقد تركت أشلاء عائلتها هناك بقريتنا.. قبل وأثناء حرب النكبة اللعينة،كان الاتفاق الضمني في المخيم.. أن ترعى السيدة أم مريم امرأة كل يوم، هكذا كانت دورة الأيام بالنسبة لأم مريم وبالنسبة لنساء المخيم، واليوم.. هو ميعاد أمي مع أم مريم، هذه السيدة التي تشبه قوسًا، فقد كان انحناء ظهرها شديدًا جدًا.

أم مريم صغيرة مثل قطة، ولكن الغريب أن أسنانها وشعرها كانا لا يزالان بأحسن حال، فقط تحول الشعر من اللون الأسود إلى اللون الأبيض، أم مريم قطة مليئة بالبياض، أو هي قوسٌ يملك سردابًا من الحكايات، كانت عندما تحكي تجدُ يدَها تعبث بأشياء في علب من صاج بجانبها، كانت تخزن كل شيء في علبٍ أو صرة صغيرة.. حتى المأكل، أذكر أنها كانت بالقرية لا تملك دولابًا في منزلها، كان بيتها مكونًا من سرير وبعض الأشجار وكثير من العلب والصرر، كنا - كأطفال - نعتقد أنها تخزن وتخبئ الحكايات في هذه الصرر والعلب، ولا تخرج منها شيئًا إلا حسب الطلب،أم مريم أشبه بكتب متنقلة، تعرف كمًا من الحكايات لا تقدر على تخيله.

بالطبع أمي مكثت عندها النهار كله، ونحن الآن ليلًا، ولكن أمي وهى تعد لنا الطعام في حضور أبي وجدي، حكت لنا قليلًا عن تفاصيل يومها مع أم مريم.. عندما سألها أبي:

كيف حال أم مريم اليوم؟

حكت أمي أنها أعادت ترتيب كمًا من العلب، وأنها وجدت كثيرًا من أثواب الأقمشة التي لم تفصّل بعد متآكلة من العفن!! ووجدت أيضا ألواحًا من الصابون وقد صارت غبارًا.

حقيقة.. كنت أسمع بفضول؛ فأنا أعشق هذه المرأة العجوز، تحدثت أمي عن النقود التي وجدتها بإحدى صرر أم مريم، والغريب.. كان تعليق أم مريم على النقود - ذلك ما روته أمي - هنا نقود يا أم مريم؟

أجابت التي في حجم قطة:

دعيها وشأنها ستكون نصيبًا لأحد يومًا ما.

علقت أمي:

أنت سيدة كتوم يا أم مريم؟

أجابت أم مريم:

الحكايات علمتني هذا.

الحقيقة أن أم مريم تكن حبًا خاصًا لأمي منذ أن كنا بقريتنا.

(6)

بدأنا نأكل في صمت.. قطعه جدي عندما نظر لأبي وقال:

سيأتي اليوم الدليل.

جدي عندما يأمر أو ينظر فقط؛ فذلك يعنى أنه لا مفر من التنفيذ، ابتسمت أمي ولكن أبي - علي مضض - قال بصوت متذبذب:

ألا يمكن أن يكون هذا الأسبوع المقبل، لابد لي من إتمام عملي هنا!!

أجاب جدي بحسم معهود:

اليوم سنرحل.. أما الأرض التي تعمل بها؛ فلها راعٍ، أنت لست مالكًا لها.. أتفهم؟

كنت لا أعرف من هو الدليل، ولماذا يأتي هنا ؟ ولكن.. عندما قال جدي: سنرحل، تذكرت جملته لي: أمازلت ترغب في العودة لمدرستك؟

لذلك سألت جدي:

هل سيسمحون لنا بالدخول يا جدي؟

علقت أمي: هناك هدنة الآن.

أجاب جدي دون أن ينظر لأحد.. فقد كان يتأهب للوقوف عل قدميه:

هذه مهمة الدليل... وانصرف لخارج الخيمة.

حاول أبي التنفيس عن غضبة المؤقت، ورغبة منه في الإفصاح عما ودّ أن يقوله لجدي، ولكنه عجز في حينها، أبي كانت تخرج منه الكلمات سريعة متعاقبة، ولكن أمي أوقفته عندما قالت:

لنا ديارٌ هناك، وإن متنا في سبيل الوصول إليها، فذلك أكرم لنا من البقاء هنا.

أدركت الآن صعوبة ما نحن فيه.. وودت أن ألحق بجدي، لذلك؛ خرجت بحثًا عنه، كان جالسًا القرفصاء أمام الخيمة، الليل ينتصف الآن تقريبًا، بعد فترة قصيرة جاء الدليل.

(7)

آه من هذا الدليل!!! لغز هو الآخر، كان ملثمًا وبه انحناءة خفيفة في ظهره، ومع ذلك؛ كان شامخًا كالجبل في هيئته وملابسه، يرتدي جلبابًا يميل إلى الابيض، ومن فوقه جاكت شتوي، وعلى كتفيه يتدلى شال طويل، فقد كنا في الشتاء، بيده سيجارة مشتعلة، الغريب أنني عندما دققت فيه النظر؛ أحسست أنني أمام رجل قد جاء من أزمان بعيدة، ترجع إلى الدولة الأموية، نعم.. تحديدًا الدولة الأموية؛ لأنني قد سميته معاوية سواء قبل أم رفض، بالطبع لم يكن ذلك هو اسمه، ولكني رأيت أن هذا الاسم هو الملائم له، فقد كان الدليل أشبه بمن خرج من كتاب تاريخيّ قديم، نعم.. أم مريم هي كتبٌ تسير على قدمين، والدليل - أيضًا - وُلد وخرج من كتاب، وليس من بطن امرأة مثلنا، تحدث جدي مع الدليل قليلًا بعد التحية الأولى، وهنا.. طلبت من جدي أن يمهلني، بعض الدقائق لأودّع وأنظر المخيم لمرة أخيرة.

وافق جدي وأمرني ألا أتأخر أو أذهب بعيدًا عن محيط خيمتنا، كانت خيمتنا في المنتصف من المخيم، تحركت تجاه الغرب.. حيث مؤخرة المخيم؛ فوجدت هناك عندما نظرت إلى السماء قمرًا يولد على استحياء وبطء، اتجهت وأنا أدور حول المخيم من الخارج إلى الشرق؛ فلم أجد شيئًا،عدت إلى المنتصف.. وخلال جولتي السريعة سمعت أصواتًا خرساء مكتومة لآراء تنحصر في جماعتين؛ الأولى ترى ضرورة المجازفة والرحيل، وكانت هذه الجماعة أقل من الأخرى التي ترى ضرورة البقاء هنا حتى يتبدل النصيب وحده، اقتربت من خيمتنا.. فوجدت أمي بجانب أبي وجدي.. يستعدون للرحيل إلى الداخل، صرنا كأم مريم.. نرحل ببعض الصرر، وكثير من الحزن المخلوط بفرح العودة، وتمنّي التوفيق في الهروب إلى بيتنا الذي كان، أمي تحمل صرة على رأسها، وأخرى بيدها الوحيدة.. والمحرومة من أخرى تستأنس بها في لحظات ضرورية.. كتلك اللحظة الآن،أبي كانت على كتفه صرتان؛ الأولى تراها من الأمام، والثانية تتدلى للخلف.

لم يكن يحمل شيئًا، وكذلك أنا، تحركنا في صمت، الدليل أمامنا ونحن نتبعه، بالتأكيد كان البعض يحس بما نفعله الآن، ولكن لم يخرج أحد ليقول لنا...

شيئًا.

خرجنا من حدود البلد المضيف، وبدأت رحلتنا المتسللة إلى بلادنا.

الدليل.. كان ماهرًا حقًا وخفيفًا كالريح، يدخن كثيرًا ويتحدث قليلًا، يحفظ طرقًا سرية فعلًا ويسير بثقة، لا يتلفت إلا عندما يصل حدود قرية ويشرع في دخول أخرى.

كنا نسير ليلًا ونختبئ نهارًا، اليوم تمطر وغدًا دون شمس، هكذا كنا تقريبا في رحلتنا.

كنت أحفظ خراب الأمكنة بعين طفل وذاكرة شاب، لا يهم الآن إذا كنت أحكي في حدود اللحظة الآن، أم أحكي من خلال سنوات تفصلني عن هذه اللحظة.

(8)

رأيت كأنني قد عدت إلى أوائل القرن التاسع عشر أو أواخر القرن الثامن عشر، واختيار هذا الوقت لا يعود، إلى محض خيال طفل، وإنما يعود إلى ما تذكرته من مدرسي المفضل منذ سنوات، فكان يهوديًا وكان يحكى مرة لنا عن تاريخ بناء مدرستنا، أقصد الابتدائية، فقال إنها ترجع إلى العام 1880، واستطرد في حكيه متداخلًا في قصة أخرى، قصة جاك، القاتل السفاح، ،الجزار، الذي كان مقربًا من العائلة المالكة في بلاد الإنجليز، هذا السفاح قد أصيب بسبب عاهرة بمرض خطير؛ فقرر قتل النساء بطريقة بشعة، كانت الأشرس في حينها، هذا ما تذكرته، أما ما رأيته؛ فكان شيئًا تعجز عن وصفه الكتب أو الحكايات التي ترويها أم مريم.

رأيت جثثًا تنقصها أجزاء، وأشجارًا في مكان وجذورها في مكان آخر، رأيت أجزاء من منازل تقف وحيدة دون حصان على بابها أو راعٍ لها، رأيت رائحة آبار وليس هناك ما يدل عليها، رأيت هاملت، وشبح أبيه ينتقل من جثة إلى أخرى، ومن شجرة مبتورة إلى أخرى، وشممت أمطارًا تنزل حزينة بسبب فقدانها لأهل يستقبلونها مهللين، أو حقولٍ تنتظرها لتنجب كالنساء ثمارًا أو فاكهة، رأيت إلهًا خلف قوس هو المتبقي من قرية ما، قوس يشبه قوس أم مريم، تلك القطة المليئة بشعر أبيض، رأيت امرأة مقتولة وهى تزرع أمام بيتها، رأيت الجميع يختبئ من قدوم جاك السفاح حتى الفئران، رأيت سقوط بابل كما حكت لنا أم مريم.

كان ذلك صعبًا علينا، فماذا لو كنت أنا هو من يحدث له ذلك؟ قتل يبدأ من قتل وينتهي لقتل، كان ما يزيد الأمور حزنًا عليّ أيضا هو أن جدي والدليل كانا يتحدثان بصوت عالٍ عن أسماء من نراه مقتولًا، وأحيانًا عن أسماء القرى، وأحيانًا أخرى عن أسماء الآبار والحقول، ولكن كانا يصمتان عندما يشاهدان مفاتيح لمنازل دون أيد تمسك بها، أو عندما يريان جسدًا بلا وجه!!!

جدي.. أن تنظر له في تلك اللحظة تعجز عن فهم ما بداخله، لا أقصد الحزن، فذلك بالطبع كان محسوسًا من الجميع، ولكن أقصد ما سيفعله كرد فعل، أو عندما يصل إلى قريتنا.. ماذا سيصنع بنا وبنفسه؟

الغريب.. أنى كنت أفكر في سارة وجدها أبراهام !! هل لا يزالان هناك؟ هل سأراهما مرة أخرى؟ هل لا تزال مدرستنا وقريتنا؟

أمي كانت في لحظات الصمت تفعل شيئين بانتظام، إما أن تبكى، وإما تنوح مغنية بصوت منخفض، ولكن الشيء الثاني كان يزعج الدليل، فهو يود أن يتم عمله في هدوء، وكان محقًا، فعلى الرغم من انخفاض صوت أمي؛ فإن الصوت كان يذهب ضعيفًا ويعود قويًا واضحًا مع صدى الصوت، وذلك الصدى يشكل خطرًا علينا وعلى مهمة الدليل فعلا، لذلك؛ أمرها كثيرًا بكل الطرق الممكنة أن تكف عن الغناء، خصوصًا أنه كان غناءً حزينًا أيضًا.

في مرة كنا نستريح.. ووجدتها فرصة ملائمة لسؤال الدليل:

من أي القرى أنت يا معاوية؟

فأجاب مبتسمًا من اسمه الجديد الذي لم يكن اسمه الحقيقي مؤكدًا:

أنا لست من بلادك يا بني، ولكنني عشت ببلادك أكثر من عشرين عاما.

وقال الدليل اسم بلده الأصل، وكانت قريبة من حدود بلد المخيم، وأشار إلى أنه من الصحراء وليس من البدو، ولا أعرف لماذا أكد أنه ليس من البدو، ولم يفصح عن اسمه، ولم أهتم أيضًا.

مرت دقيقة من صمت، أشعل الدليل خلالها سيجارة وأزاح الشال من على كتفيه واعتدل في جلسته كمن يستعد للطعام - أي جلس مربعًا، يدٌ بها السيجارة ويدٌ تعبث بحجره في اللا شيء، جدي كان قد نعس قليلا، وأبى كان شارد التفكير، وأمي كانت تعد بعض القهوة في جانب أسفل شجرة قصيرة صلعاء، وفجأة.. استطرد الدليل في منولوج طويل - بالنسبة لعادته البخيلة في الحديث دائما وقال:

عشت في سائر قرى هذا البلد، أنتقل من قرية إلى أخرى، أبيع أثواب القماش، من قبل كنت عامل بالأجرة، ثم صرت بائع القماش الجنوبي - كما يلقبني الجميع، أجلب القماش من الشام ومن إيران،أحمل فوق ظهري ثياب العرس والفرح لجميع الأعمار، لم أتزوج ولم أملك يومًا ما مفتاحًا لبيت، أسكن وأنام لحظة أن أتعب من السير فقط، صاحبت آبارًا وأشجارًا وحقولًا، ورأيت ملايين الابتسامات من بشر مروا بقلبي مرور الكرام، أحيانا أبيع الثياب دون أن آخذ ثمنها، وأعود الموسم التالي مع الريح فيدفعون لي القديم والجديد، جاء الانتداب وقلّت التجارة، جاء المهاجرون منهم واندثرت التجارة، بحثت عن عمل يناسب هدفي ورغبتي.. وأخيرًا وجدته؛ وهو أن أصبح دليلًا لدروب أحفظ عدد ذرات ترابها وحصاها، أعرف متى تنبت بها نبتة شيطانية ومتى تنام، أتفهم يا بني؟

أنا سأموت في طريق بين بلدين أو بين قريتين، ولست أخاف ذلكّ!! ما دمت سأموت، راحلًا فلا خوف ولا حزن يا بني، وعشت بالصحراء في بلاد تجاه غرب الشمس، عامان أجوب شرق وغرب هذه الصحراء، واقتربت من بحر الرمال، ولكن قصة الصحراء ستعرفها فيما بعد.

كانت أمي بجانبي تنصت للدليل في حديثه.. وكذلك أبي، جدي استيقظ من نعاسه وابتسم كثيرًا من حديث الدليل، كم هو حزين هذا الدليل في هذه اللحظة، وكم يعانى وكم كنا محظوظين عندما امتلكنا مفاتيح ديار لنا، رغم حرص الدليل المفزع على عدم البكاء بينما هو يحكي، فإن بعض الدموع قد نزل منه عنوة، وهنا تداخلت أم بمكرٍ علّها تخرجه من هذه الحالة.. وقالت له:

أتعرف أن الأثواب التي اشترتها منك أم مريم، لا تزال تحتفظ بها، لكن للأسف.. صارت قطع صغيرة ممزقة ومهرولة نتيجة العتة والركنة!!!

أجاب بذكاء.. فقد فهم أن أمي اصطنعت هذه الجملة لتغير مجرى حديثه الأول:

بالتأكيد لم تكن تعرف حكاية بها سر تخزين القماش.

ابتسم الجميع ثم عاد الصمت، صمتٌ أتاح لي فرصة أن أسترجع قصة قد روتها لي أم مريم، بالإضافة إلى عدم زواج الدليل.. و رؤية وجه أمي.. كل هذا ساعدني على أن أسترجع تلك الحكاية، وبدأت أقصّها على الدليل، بالطبع لم أكن ولن يكون هناك أحد في مهارة أم مريم عندما تحكي، ليكن، كانت حكاية قمر الزمان وبدور، ذلك الثنائي الذي يملك كل الجمال والجاه، ولكن كلًا منهما لا يرغب في الزواج، وذات ليلة.. يجمع بينهما عفريتان، ثم يفترقان مرة أخرى، ويتزوج قمر الزمان بأخرى وكذلك بدور، وينجبان، ولكن هنا سحر الحكاية وسحر الحياة في ذلك الأوان من الزمان، كل امرأة تعشق ابن الأخرى على عكس طبيعة الأشياء، فالأجدر بكل أم أن تعشق ابنها، ذلك لأنه جزء منها على الأقل، الطفلان أو الأخوان، الأمجد والأسعد.. يمران بلعبة اللقاء والفراق نفسها.. كما حال قمر الزمان وبدور من قبل، وتنتهي الحكاية، كان الدليل مع رحيله هو قمر الزمان مع بدور، وكذلك أمي مع ذراعها المفقود هي بدور مع قمر الزمان، ولكن أمي لم تلتق ولو لمرة بهذا الذراع للأسف، أما أنا.. فقد كنت قمر الزمان وسارة هي بدور.

(9)

بدأنا الرحيل ليلًا.. وكانت هذه هي الليلة الأخيرة، فهمنا ذلك عندما قال الدليل:

مع أول الفجر سنصل قريتكم.

كان اليوم هو اليوم الخامس عشر من رحيلنا من المخيم، قضينا أربع عشرة ليلة.. نسير، وأربعة عشر نهارًا نختبئ.. نرى ونصمت، نستريح ونمضى، نحلم ونحزن، نفكر ونتخيل، ولا جديد يحدث في الأفق غير القتل وطقوس الحياة اليومية المرنة الخبيثة تملؤنا.

سرنا الليلة الخامسة عشرة وراء الدليل - كالعادة، كنت بأول الرحلة مصرًا على أن

أحصي الخطى من المخيم إلى القرية التي لنا، ولكن.. لم أستطع، كان يتطلب ذلك الكتابة والتسجيل، ولكني كنت كسولًا، إضافة إلى أنني ركزت في أشياء أخرى.

أيضا في تلك الليلة.. كان القمر واضحًا وليس خبيثًا كعادته في الليالي السابقة،

وبعبورنا حقلًا رأيت وردة صغيرة بغصن لا أعرف كيف له القدرة على حملها، فقد كان ضعيفًا هو الآخر، انحنيت ورغبت في نزع الوردة، ولكن صوت جدي الذي كان خلفي منعني عندما قال:

دعها وشأنها يا بني !! فلها مصير آخر لا نعلمه!! فقط تمتع برائحتها.

جلست على ركبتيّ وقربت أنفي منها؛ وإذا بي أشم رائحة غريبة.. لا هي بالجميلة ولا بالكريهة، وإنما تنسحب لداخلك بنعومة فذة مطاطية، أحسست بها في جسدي عندما أصابتني رعشة قوية، كانت وردة عادية لونها أبيض، أغمض عيني لثانية...

فإذا بالوردة تمد وريقاتها وتتحسس خدي، هل ذلك محض خيال طفل؟

أم أن الوردة تشكرني لتركها ؟ في غصنها؟ أم هي تأمرني بشي ما؟

لا أعرف؟

عادت الرعشة بينما أنا أقف وأستعد لمتابعة سيرى معهم، ودون تفكير أو تأنٍ صرخت لجدي الذي كان قد سبقني قليلًا:

جدي... جدي.. أودّ أن أصير حاملًا للورود.

ضحك الجميع.. وجاء صوت الدليل من ظهره واضحًا كالقمر الذي فوقنا:

حامل الورود لا يستقر في مكان يا بني!!

أجبت وأنا أسرع الخطى تجاههم:

ليكن.. سأكون المكان المتغير دائمًا وسأحمل الورود.

مرت الساعات والدقائق.. وإذا بأول ضوء للفجر يأتي.. وإذا بنا أمام قريتنا، صدق الدليل.. مع أول الفجر سنصل.. وها نحن قد وصلنا.

(10)

وجدنا قوسًا وراءه فضاء، أيعقل أن تتشابه قريتنا مع بقية القرى، فقط ما تبقى منها قوس كقوس أم مريم، إن تنظر جهة الشرق تجد شجرة التوت القديمة، ومن المؤكد بجانبها البئر، وإن تلتفت قليلًا ناحية الغرب تجد مقابر، ومن ورائها في البعيد القليل.. مزرعة جديدة للعدو، يتضح أنها في البدايات، ولكن.. أين منزلنا والمنازل المجاورة له؟ أين بيت أبراهام ؟ أين مدرستي ي ما كنت متى نظرت تجاه الجبل فتلمحها؟

كنا كأننا وقفنا أمام صورة قديمة جدًا.. باهتة الملامح.. يجب عليك التركيز والتركيز كي ترى فيها شيئًا ما قد يساعد على تحديد معالمها، هكذا كانت قريتنا كباقي القرى التي مررنا بها، مجرد صورة مشوهة باهتة لا تقدر على إيجاد شيء فيها يدل على حياة سابقة.

كان كل منا مسمرًا مكانه مذهولًا، كان يمكن أن نتخيل ذلك من خلال كل ما مررنا به؟ ولكن كنا ضحية الأمل الإنساني، أمل أن تكون قريتنا محظوظة بعض الشيء أو كل الشيء!!

كان أول من نطق هو جدي قال:

الأوغاد...

ولم يكمل فقد سقط مغشيًا عليه.

أبي سجد أرضًا وبدأ...

يلطم خديه مستعينًا بتراب لا أعرف إن كان من تراب حقلنا!! أم من أحذية جنود مروا هنا وفعلوا كل هذا.

أمي.. رمت الصرتين وبدأت تجرى وتولول بصوت عالٍ غير مبالية بنصائح الدليل من

قبل بضرورة خفض الصوت، كانت تجري للداخل خلف القوس، الدليل وضع رأسه عموديًا على قدميه وصمت، بالتأكيد الدليل كان يعرف ما آلت إليه قريتنا، لكنه لم يتحدث أبدًا عن هذا، مثلما افتعلنا نحن الأمل في إيجاد ما كان يجب أن نتوقعه.

مرت ساعة ببطء سخيف، استجمع جدي قواه، ووقف، نظر إلى أبي الذي لا يزال يلطم، وأيضًا وجد أمي لا تزال هناك تبحث خلف القوس باتجاه الشمال، أشار لي جدي بالاقتراب وأمسك بيدي واتجه ناحية شجرة التوت.

الدليل أوقف جدي عندما قال:

لا بد لي أن أنصرف يا سيدي، قلبي يشارككم الأحزان.

ترك جدي يدي، وأخرج نقودًا من جيبه، ولكن الدليل لم يترك له فرصة، فقد بدأ ينصرف وهو يقول:

يكفي ما أنتم فيه يا سيدي.

رفع جدي يده محييًا الدليل وأكمل خطواته تجاه الشجرة، توقف جدي أمام البئر التي كانت قبل الشجرة بثلاث خطوات فقط، وجلس.. حرّك جدي بصعوبة أحد الحجارة التي تسد فتحة البئر، وإذا بشيء خرافي يحدث أمامي، وكأن جدي تحول لعفريت، ليجمع ما بين قمر الزمان وبدور، كلما زاد جدي الفتحة الصغيرة التي صنعها بإزاحته للحجر؛ خرجت الفراشات من البئر، يا إلهي.. سرب يخرج من البئر، فراشات جميلة الألوان، لحظة تفصلك عن لحظة ماضية وهذه هي الحياة، موت وحياة، إلهي ساعدني.. فكم من الأسئلة يحوط بي، كيف للفراشات أن تعيش داخل البئر.. ثمانية عشر شهرًا وخمسة عشر يومًا؟ هل صنعها جدي الآن؟

هل هي هنا تنتظر جدي؟ أم أن جدي الذي ينتظرها...؟

يا إلهي.. إنني قد نسيت الفراشة المريضة، أيعقل ما يفعله جدي بي الآن؟

اعتدل جدي وبوجهة ابتسامة بريئة وأخرج من جيبه ورقة مكورة وبها فتحات، وإذا به يخرج من الورقة الفراشة المريضة ويطلقها لتنضم إلى سرب الفراشات، جدي يكاد أن يرمى بي في الجنون!

يحتفظ بالفراشة خمسة عشر يوما، ويقول لي عندما كنت بالمخيم.. قريتنا هناك، حيث أسراب الفراشات، جدي لا يؤنس الفراشة وإنما تؤنسه الآن أسراب من الفراشات!! أيقنت أن جدي عفريت، ورغبت أن يحضر لي سارة أو مدرستي.

الغريب أنني لم أطلب ذلك، والغريب - أيضًا - أن الفراشات لم تبتعد، وإنما ظلت تطوف بأعلى الفتحة فوقنا كأنها في موسم الحج، لم يهدأ جدي من صنع مفاجآته معي، وتحرك حول البئر وجلس يحفر الأرض بجانب حافة البئر، فأخرج كيسًا من البلاستيك، بداخله قطعة من القماش، تذكرك حالًا بالدليل، ثم أخرج صورة قديمة له ولأبراهام، وحكى لي عن تاريخ الصورة الذي يرجع لأكثر من خمسة وعشرين عامًا، خبأها جدي هنا قبل رحلينا إلى المخيم بأيام، لم تكن سارة بالصورة، فهي مثلي طفلة، مد جدي يده بالصورة لي وقال:

احتفظ بها أنت، أتفهم.. أنت؟ إنها لي مع رجلٍ كان طيبًا، أتفهم؟

قلت: أفهم يا جدي.

كانت تلك الإجابة هي ما ينتظرها جدي قبل أن يرحل، مات جدي على ركبتيّ تاركًا، صورة وفراشات، بدأت أصرخ مناديًا أمي وأبي، أنظر إلى جدي وأنظر إلى الصورة فأدرك أن جدي والفراشات.. هو قمر الزمان والملكة بدور.

شرفة تكفي لمساءات عدة

هنا بقرية أخرى؛ أبدأ للمرة الرابعة حياة أخرى، من قبل قريتنا.. ثم المخيم.. ثم قريتنا.. ثم هنا، حيث انتقلنا في اليوم نفسه الذي مات فيه جدي إلى أحد أقارب أبي، كان رجلًا طيبًا، أعطانا منزلًا، أو بالأصح نصف منزل، فقد كان الجزء الخلفي منه مهدومًا، قرية ليست بالكبيرة ولا بالصغيرة، بها شوارع وأزقة ومدرسة التحقت بها، القرية بها خليط من السكان، كان من العجيب أنه أيضًا في ظل الاحتلال أو أوقات الحرب هناك دائمًا حياة تحدث وتنمو على مهل، كان هذا يتزوج ونحضر يوم عرسه، وتغني له نساء ويرقص رجال، وتُعد الموائد أيضًا، كانت هذه تلد وذاك يموت، كان أناسٌ يبنون بيوتًا ويهدمون أخرى، كان يأتي أناس ويرحل آخرون، تبقى منازل ويتبدل الساكنون، جنود من العدو يأتون ويذهبون لقرية أخرى، نذهب إلى المدرسة وفى العطلات نلعب ونذهب للجبل.

في البداية.. عانت أمي من ترتيب هذا المنزل وإزاحة الأحجار في الجزء المهدوم، كنت أنا وهي فقط، لأن أبي قد وجد عملًا بسرعة غريبة، لم نكن قد حزنا كثيرًا على جدي، لا لأنه كان شريرًا، وإنما لأنه مات في المكان الذي اختاره ودون تداخل من أيد غريبة، وأرجو بعد عمر مديد أن ينال الدليل رغبته في موت محبب كما أراد، جاءتنا أخبار من المخيم أن أم مريم قد ماتت بعد رحيلنا بساعات.. أي أول النهار، كانت أمي سعيدة – أيضًا - لأنها هي التي حممت وساعدت أم مريم في آخر يوم لها على قيد الحياة، امرأة بذراع أوحد هي آخر من سمع القطة المليئة بشعر أبيض، وذراع أوحد هو آخر من حممها.

أحببت مدرستي الجديدة.. ولكن ليس بحجم حبي لمدرستي القديمة، لم أكن بعد على استعداد للانخراط في صداقات، كانت حدود علاقاتي مع زملائي في المدرسة تنتهي بانتهاء اليوم الدراسي، وتسمح أيضًا بعض المرات باللعب معهم قليلا، لم يكن لعيب فيهم، وإنما لأني كنت مأخوذًا بالفراشات، إضافة لعاهتي في النطق، وأيضًا صعوبتي في الجري - كما قلت سابقًا، فلي قدم أطول من الأخرى، لذلك؛ وجدت الوقت وصرت أسأل عن الفراشات وأجمع كل معلومة عنها، وساعدني مدرسي بالمدرسة في ذلك؛ بعدما أخبرته أن تلك وصية جدي لي، ولم أخبره عن شيء آخر،كانت الصورة التي تركها لي جدي تخصني وحدي، حتى أمي وأبي لم يعرفا عنها شيئًا، لم أعد أفكر في عاهاتي، كنت أحب السير وحدي.. لعل وعسى أقابل شبح سارة.

أمي كانت تعتقد أنى خلال وقت قصير سأتحول إلى فراشة أو سأصير مجنونًا.

(2)

حاولنا أنا وأمي أن نزرع أزهارًا بالجزء المهدوم من الخلف لمنزلنا، لكن هذه الزهور كانت تأبى الاستمرار، كيف لها أن تنبت وسط أكوام من الحجارة، كيف لها أن تأخذ حيزًا كان غرفة يوم ما؟ كيف لنا أنا وأمي بالخبرة التي كانت عند جدي لجعلها تستمر في النمو هذه الأزهار، لذلك؛ سألت أمي وكلي غضبٌ من فشلنا الدائم:

ترى لو كان جدي هنا.. هل كان بمقدوره أن يزرع زهرة في حجر من حائطٍ قديم؟

أجابت أمي:

الأزهار لها الحقول والبيت لصنع الخبز يا ولدى!!

لم نيأس.. جلبنا أنواعًا أخرى من النباتات وصرنا نجرب ونفشل، إلا أننا نجحنا أخيرًا عندما أحضرنا بعض النباتات الجبلية والصحراوية، بكثير من الحظ وقليل من الأمل.. نبتت زهرتان بجانب غصن من لبلاب صغير، بدأ يصعد ويصعد إلى أن وصل إلى السطح، كم كان نشيطًا هذا اللبلاب، اكتشفت مع أمي أن زهور المنازل متعبة وتتطلب صبرًا كبيرًا، وحرصًا في حجم الماء الذي يصلها.

صرت أكبر أنا الأخر مثل اللبلاب وأتقدم في دراستي، فأنا على وشك الانتهاء من المرحلة التي يسمونها الثانوية.

الجميع - أقصد الطلاب - يتحدثون كالسابقين في المخيم.. بعض يود الرحيل وبعض

يرى البقاء والصمود، وكنت أنا أفكر في الدليل والفراشات والورود، وساعدني على ذلك شرفتان صغيرتان، الأولى بمنزلنا وتطل على الجزء المهدوم، أي تطل على الزهرتين واللبلاب، كانت شرفة الحجرة صغيرة، تكفي لأن ترى القمر والزهرة وقليلًا من السماء والسطح، كنت أنظر منها على ما نزرعه، أتأمل فشلي مع أمي في البداية، وأرى عندها الدليل يصعد من سطحنا إلى قبة السماء.

أمّا الشرفة الأخرى؛ فكانت بالفصل في المدرسة، تطل على الجبل البعيد، وأتذكر جملتي لجدي:

جميع البلدان بها جبل وزيتون.

كانت أسفل الجبل شجرة فعلًا للزيتون، كنت أراها من مكاني وأنا بفصلي، وأحيانًا أرى بعض الفراشات وهى تعبر الجبل، هذه الشرفة.. كم من الأشياء قالها المدرس ولم أنتبه بسببها.. كم كنت أود أن أكون ليلًا بفصلي لأرى وحدي الجبل والشجرة.

هذه الشرفة.. وتلك التي بالمنزل.. كانتا أوفى من كتب الجغرافيا، تدلان على جبل وشجرة وزهرتين وسطح وقمر، دون الاستفاضة في أرقام أو خرائط؛ سواء قديمة أو معدلة، هما شرفتان تبوحان بما تراه من خلالهما ليس أكثر ولا أقل.

(3)

أبي بدأ يمرض من آن لآخر، وأحيانًا كان لا يذهب إلى العمل، على الجانب العام؛ كانت الأهالي ترحل.. ترحل تاركة منازلها لضيوف جدد غرباء.. لا يبتسمون أبدًا.

خطر ببالي والد سارة حفيدة أبراهام، أين هو؟ وماذا يصنع؟ ولماذا ترك أباه وابنته ومضى؟ لذلك؛ ذات يوم قلت لأمي: إني حلمت بأبراهام أمس، يسير وحيدًا ويطلب مساعدتي، ولكني كنت عاجزًا عن فعل شيء، فقد كنت مربوطًا بأشياء تشبه السلاسل!!

قالت أمي:

إنه فأل سيئ يا بني!!

كنت بالفعل قد حلمت بذلك، ولم أخترع هذا الحلم بهدف استدراج أمي للحديث عن سارة، كان الحلم عجيبًا، وبمكان أشبه بسرداب، ولم يكن هناك سوى أنا المربوط، وهو ينزف أمامي، السرداب طويل ومخيف في حد ذاته، سألت أمي عن والدة سارة - ولم أهتم بالفأل السيئ الذي تحدثت عنه أمي:

هل رأيت والدة سارة يومًا ما؟

أجابت أمي:

لا...

وعقبت قائلة بعد دقيقة من صمت:

سمعت ذات يوم جدك يتحدث مع أبراهام، فقد كان يشكو أبراهام من ابنه ومن تصرفاته الغريبة، كانت حقًا غريبة، لا يلقي السلام علينا، ويخرج ثم يعود بعد أيام، لا أحد يعرف أين يذهب؟ ومع من يقضي أيامه بعيدًا عن قريتنا ومنزله؟! كان عندما يعود يتشاجر مع أبيه، ويأتي الأب لجدك كي يفضفض عن نفسه قليلًا، وذات يوم - قبل أن ألدك بثلاثة أيام - عاد الابن بعد اختفاء معتاد منه، وإذا به يحمل طفلة رضيعة، ويقول إنها ابنته، ولم يصرح من هي هذه المرأة الأم؟ ولماذا لم تأتِ معه؟ واختفى من بعدها إلى الآن يا بني، الحمد لله أن الطفلة كانت على وشك إتمام عامين، وإلا.. لصارت الأمور مشكلة لأبراهام.

(4)

تمر الأيام والأفكار تتشابك كالعقدة الخبيثة برأسي رغمًا عني، فقد حاولت كثيرًا أن أفصل بيني وبين أفكاري، كفصلي لسارة عن أبيها، أحاول أن أستخلص صورة نقية للأشياء، كتلك الصورة التي أورثها لي جدي - أقصد صورته مع أبراهام - ولكن لا مفر؛ فأنا أنضج مثل اللبلاب النشيط بمنزلنا الخلفي، صرت أعرف ما هو الانتداب البريطاني الذي.. أحلّ بنا، ومن بعد أورثنا لبلد أعلن قبل الحرب أنه سيحل محلنا، وعرفت ما هي حدوة الحصان، ولماذا يتحدث عنها الكثير، كانت الحدوة هي طريقة العدو في محاصرة القرى، كانوا يحاصرون القرية من جميع الجهات إلا جهة واحدة، وبالطبع هي جهة الهروب من العذاب والتهجير.

صرت أعرف المنظمات - أقصد الثلاث منظمات الشهيرة في ذلك الوقت - التي فعلت هذا، ومتى بدأت فعله، سواء في أيام الانتداب الإنجليزي، أو في لحظة إعلان الدولة الجديدة، جماعات منهم تفعل القتل والتخريب عن قناعة مرعبة، وحب يمتلك جميع جوانب الإصرار، كانوا مثل جاك السفاح، ولكن نحن لسنا بعاهرة ولم نصبهم بمرض خطير مثل الحال مع جاك!!

ووسط كل هذا.. أفكر في سارة!!!

ووسط كل هذا - أيضًا - هناك فأل سيئ سيأتي يا بني - كما قالت أمي - وتذكرت الدليل عندما أكمل لي رحلته في الصحراء، فقد حكى لي أنه اتجه لصحراء المغرب بشمال أفريقيا وقضى بها عامين، وذلك عندما ضل القافلة، صار وحيدًا وسط حَرّ مرعب، يأكل العقارب والثعابين ويخترع الماء، واختراع الماء هو ما جذبني لتذكر الحكاية الآن، فكان يأتي ببعض الجريد ثم يضع فوقه بعض الأحجار الصغيرة، التي هي متوافرة لديه، ثم يضعها فوق الجريد، ويغطيها بطبقة أخرى من الجريد، ويتركها ساعات وساعات، وعندما يعود يجد بفعل الحرارة هذه الأحجار قد وُلدت منها المياه، وأذكر.. كان يقول:

النخلة بالصحراء رأسها في الحريق وجذورها في الماء، فإذا بحثت عن الماء في الصحراء يجب عليك البحث عن النخلة، وإن وجدتها ولم تجد أسفلها الماء، فولده من حجارة وجريد!!!

أرى أيامي المقبلة هي الصحراء، وأنا عليّ – كالدليل - أن أولّد الماء من حجر وجريد، كما أنبتت أمي الزهرة في حجر قديم.

فراشة على نهد غير مكتمل لكنه ينمو بخفة

مطر الصليب يعلن عن قدوم موسم الشتاء، هكذا كان اسم أول الأمطار الشتوية لدينا، ربما يرجع الاسم إلى الصليبين أو إشارة منا عنهم، والصليبيون أيضًا غيروا اسم قريتنا القديمة عندما جاؤوا، ولكنها رجعت لاسمها بعدما رحلوا، والآن بقي الاسم ولم تبق القرية، ومع ذلك هناك جدي يحرس البئر وشجرة التوت، كنت باتجاه مدرستي، ولكنى لم أكن أرغب في الذهاب اليوم، لذلك؛ قررت أن أتجه للجبل، يبدو أن الفأل السيئ هو ما جعلني أشعر بضرورة غيابي من المدرسة اليوم، وكنت - صراحة - أسيرًا مهزومًا حزينًا، ولكن يولد الحلم من بطن الحزن، وتولد الفرحة في صحبة الآه، كلحظة أن تلد أم طفلًا، تلده وهى تتألم!!! تصرخ!! ومع ذلك؛ تبتسم بعد لحظة،ها هي الدنيا وها نحن!!!

لا نعرف ما تخبئه الأقدار وإن كنا نبذل قصارى جهدنا لتفادي ما لا نرغب فيه، ولكن الآن يحدث ما رغبت فيه، يأتي بعدما قد اعتقدت أنه لن يأتي أبدًا.. كأن تولّد الماء من جريد وحجر...

رأيت سارة تأتي من بعيد في مواجهتي، الهواء الخفيف خلفها يسبقها، اقتربت أكثر، وكنت قد تسمرت مكاني، فمن الممكن أن تكون أخرى شبيهة لها، أو أن تكون عفريتة انتحلت وجه سارة!!

سنوات لم أرها، ومع ذلك.. لم تتبدل ملامحها سنتيمترًا، نعم بدأت تتشكل كبنت، وبطريقها لامرأة طبعًا، نسيت حزني وهزيمتي، وقلت إن أمي أساءت التعبير عندما قالت: إنه فأل سيئ يا ولدى؟

سارة - وهي تقترب - كانت تمثل بشكل ساخر كأنها شخص تائه كفيف، الحقيقة أنها منذ صغرها وهى ماهرة في التمثيل، لكم أرعبتني عندما كانت تمثل أنها ميتة أو مريضة.

تبادلنا التحية والابتسام وصرنا نحكي ونحكي إلى أن وصلنا إلى الجبل، بجانب شجرة الزيتون، هناك بدأ الصمت، وبدأت أنظر لشرفتي التي بالفصل، وفكرت - صامتًا:

هل الذي يجلس مكاني الآن بالفصل يرانا؟ هل إذا استطاع... سيعرف سارة؟ وسيعرف أنها حفيدة أبراهام؟

جاهدت في الخروج من هذه الأفكار ومن شرفة فصلي التي أحبها مثل حبي لهذه اللحظة، بأعلى الجبل كان بعض الفراشات يعبر باتجاه آخر خلف الجبل، نظرنا إليها إلى أن عبرت، وهنا.. تحدثت عن الفراشات وأنواعها وفائدتها للنبات وللإنسان والحيوان، كنت كأني قد تحولت إلى كتاب ناطق يرص الكلمات والمعلومات رصًا، اقترب النهار من المنتصف، وكانت الشمس عمودية، وشمس الشتاء مغرية على البقاء في رحابها دائمًا، كنت أحكي وسارة تبتسم، وفي لحظة محددة، أشارت بيدها دلالة على ضرورة صمتي وترك الحديث لها، لم تقل غير كلمة واحدة.. بينما كانت تفك أزرار قميصٍ يطل من أسفل جاكت، قالت:

انظر...

وأخرجت نهدها الأيمن، حملته هي من أسفل بكفها، وكاد الكف أن يبتلعه - فقد كان صغيرًا - ورأيت ما لم أصدقه إلى الآن، وشمًا لفراشة صغيرة، يا إلهي...

فراشة تنام على نهد غير مكتمل لكنه ينمو بسرعة، كم صرت أحسد هذه الفراشة التي تلامس ليل نهار نهد سارة، ثم أغلقت سارة قميصها وسألتني:

أنت في السنة الأخيرة، ماذا ستفعل بعدها؟.. كانت تقصد بعد المرحلة الثانوية.

قلت:

أود أن أحمل الورود.

قالت:

لم أفهم؟

قلت:

أود أن أكون حاملًا للورود.

قالت:

لما لا تفكر أن تكتب في جريدة؟

قلت: أي جريدة؟

قالت:

جريدة الحزب الشيوعي.

وصارت تحكي عن الحزب ونشاط الحزب، وأن هذا الحزب هو ضد كل ما يحدث هنا.

بالطبع كنت أرى أنها صغيرة للحديث عن هذه الأشياء وكذلك أنا، لكنها نفت رؤيتي عندما قالت:

يجب أن تنظر إلى الأمام.. أنت مع الحزب ستنال بطاقة وبها ستصبح كاتبًا، وتستطيع أن تنتقل بحرية أكثر، وإلا ستظل محبوسًا في القرية ولن ترحل منها!!!

سألتها عن جدها - ولم أخبرها بالطبع عن الصورة التي تركها لي جدي - فقالت:

انتقل إلى المدينة المقدسة أو مدينة الحائط - كما يقولون- وأنا هنا عند عمي بقرية بجانبك خلف الجبل، سألتها:

ولمَ أنت هنا الآن بقريتنا؟

قالت: كنت بطريقي لمدرسة هنا لترك دعوة من الحزب.

سألتها:

وهل ما زلت تذهبين للمدرسة؟

أجابت:

بالطبع.

ساد صمت، ثم قالت:

أتعرف ماذا يعمل أبي؟

قلت:

لا.

قالت:

أبي لم أره حتى الآن، ولكن علمت من جدي وعمي - وفى الحزب أيضا يعلمون ذلك - أنه يعمل في تلك الجماعة الشهيرة، وقالت الاسم.. وكان مفاجأة لي، إنها أشهر الجماعات الثلاث المسئولة عن تدمير قرى بأكملها، إنه يعمل بطريقة حدوة الحصان، إنه يقتل ويقتل، إنه جاك السفاح، هاهو الفأل السيئ!! صدقت أمي.

سارة تقول إنها لا توافق عما يفعله، وأنا انتظرت طويلًا أن أقابلها، تقول سارة الحزب والحزب.. ولكن.. قريتنا لم تعد، ماذا عليّ أن أفعل؟

كنا نتحدث عن الفراشات وهي أرتني فراشة تسكن نهدها الأيمن، وصارت هي ابنة.. قاتل!!!!

شيء ما جعلني أراها مثلي، تحتاج لماء الصحراء، هذا الشيء هو غياب والديها عنها وصورة جدها التي معي والفراشة.

(2)

رجعت البيت وكنت بلا رأس، أحست أمي، ولم أخبرها، لكنها تحدثت عن والد سارة، وكانت تعرف - هي الأخرى - لكنها أضافت:

كنا نعلم ذلك قبل أن تولد أنت.. وقبل أن يأتي بطفلته، وكثيرًا ما اعترض أبوه ولكنه اعتدى عليه بالضرب، وهدده بالقتل؛ لأنه دافع عن جدك مرة، ثم اختفى.

قلت:

قابلت سارة اليوم.

قالت أمي:

حسنًا… ولم تضف كلمة.

مرت السنة وتعمدت ألا أفكر في سارة، بدأت أبحث عن شيء يخبرني الكثير عن هذا الحزب، ووجدت أن به - أيضًا - أناسًا من أهلي، وأنه يمتد لتاريخ قديم، وأنه بالفعل لا يوافق على الاستبداد من جانب الدولة الجديدة أو من جانب الأفعال التي ترتكبها الجماعات الخطرة، وبالطبع منها التي بها والد سارة.

(3)

تكررت الصدفة مرة أخرى، لا أقصد صدفة لقاء سارة، وإنما السكن بالقرية التي بها سارة، فقد انتقلنا من جديد للمرة الخامسة في حياتي لقرية أخرى، كانت هذه المرة بسبب مرض أبي وعمله الجديد بتلك القرية مزارعًا أيضًا، وأود الإشارة إلى أن أبي كان بمقدوره أن يأمرني بالعمل، أو يجعلني أترك المدرسة، ولكنه لم يفعل أبدًا، كان يرى أنني يجب أن أكون متعلمًا وأن أصير مدرسًا، ولكن الأقدار ليست دائمًا هي ما نرغبها؛ فقد تسير السفن في اتجاه آخر وإن كان ضد التيار والريح، كم كان حنونًا هذا الأب، وإن كان لا يعبر عن ذلك بجمل.. وإنما بأفعال، هذه المرة نسكن على حدود القرية بجانب حقل، ومنزلنا الجديد - تقريبًا - بأول الحقل، وأشبه بخُص كبير، كالعادة.. بدأنا كل شيء من جديد، وزاد أمر جديد عليّ رأيت أنه من الضروري فعله، بدأت أذهب إلى الحزب.. أستمع.. وأقرأ، وبدأت أتدرب على الكتابة بجريدة الحزب، لم تكن جريدة بالمعنى المتعارف عليه الآن؛ وإنما - باختصار- بعض صفحات قليلة في شكل جريدة.

صرت رفيقًا ضمن الرفاق، وصرت أرى سارة بانتظام، كتبت وكتبت.. وكم من الأوراق مزقت؟ الكثير.

(4)

أخيرًا.. كتبت مقالة عن قرية افتراضية، قد تكون في أي مكان ما من العالم، ويأتي إليها شخص أعمى يمتلك كل شيء، ويبدأ البطش وظلم الجميع، لم تعجب المقالة الجهات الحاكمة لنا، واكتفوا بتحذيري من الإساءة لهم.. ولو بشكل مستعار، أعطى التحذير أمي الحجة الصائبة في القول:

أسأت الاختيار في العمل.. يجب أن تكون معلمًا.

لم أهتم.. وصممت على عملي الجديد الذي لم يكن عملًا بالمعنى المعروف، فلم أكن موظفًا.. ولم أتقاضَ راتبًا، وإنما أتقاضى تشجيعًا وتنفيسًا عما أحسه، صرت الآن في العشرين من عمري، ولم أرغب في إتمام دراستي، وأحببت الحزب، عرفت أشياء عن العالم المحيط بنا وعن بلاد أخرى، وعن ثورات تحدث هنا وهناك، وعن بلاد تتحرر، وبلاد تحاول، كنا في أوائل الستينيات من هذا القرن، المذياع يتحدث عن الحرب والحب، وتفصل بين الاثنين الأغاني الوطنية التي تأتي من بلد قريب لنا، صرت قارئًا جيدًا للأدب، أقرأ كل ما يقع تحت يدي، وبدأ ينمو بيننا شاعرٌ وقاصٌ.. وممثلون - كما سارة،على الجانب الآخر.. يزداد مرض أبي وغضب أمي مني.

كتبت المقالة الثانية.. وهي عن ثورتنا القديمة التي امتدت ثلاث سنوات في عهد الانتداب، وكانت العام 1936، وأشرت إلى تلك الجماعات التي هي السبب الآن فيما نحن فيه، لم تكن وقت الانتداب بذات القوة التي هي عليها الآن، وكانت تعمل مع الانتداب ضد ثورتنا، ومن بعد انقلبت على الانتداب يوم إعلان الدولة الجديدة قبل حرب النكبة مباشرة.

وكانت النتيجة... دخلت المعتقل أربعة أشهر، أربعة أشهر من تجربة أخرى وحياة أخرى، أن تتحدث عن الحرية شيء؛ وأن تدخل المعتقل شيء آخر، تعذيب في الصباح والمساء، المعتقل باختصار أداة خلقت للنسيان، نسيان ما تؤمن به أولًا، ونسيان أنك تمتلك الحق في التفكير، المعتقل هو قلب دولة تمشي على قدمين، إن توقف القلب؛ ماتت هذه الدولة توًا، كنت أصغر من بالمعتقل عمرًا، رأيت أعمارًا مختلفة، ولكن حدث لي ما لم أتوقع أن يحدث يومًا ما.

في يوم.. جاء الحارس ومعه آخر؛ وإذا بهما يتحدثان عن العيب بقدمي ولغتي، وبالتدريج.. اتخذ المزاح من جانبهما حيزًا آخر، وبدأ الاثنان في أمري بخلع ملابسي، لم يكن هناك أسوأ من أن يرى عدوُك عورتك، وليس هناك أقسى من وضع طرف سلاحه بمؤخرتك، أيعقل أن - يوشك أن - يُغتصب شخصٌ من أجل أمره بالنسيان فقط، أو من أجل تكملة المزاح.

قضيت الأيام الأخرى في المعتقل بعد هذه الحادثة كأني في ذهول، لا أنطق ولا أفتح عيني، فقط كانت تخطر ببالي قريتي وجدي والفراشات والدليل، ولم تخطر سارة، كنت أرى -بشكل افتراضي - والد سارة، أراه بصورة صنعتها أنا، فلم يسبق لي أن رأيته، أراه يقول لي:

أنت هنا لأني أردت أن تكون هنا.

خرجت من المعتقل؛ فوجدت أبى قد مات، وأمي تنتظرني وحيدة، جاء الرفاق؛ ولم أتحدث عن وضع السلاح بمؤخرتي، قررت الانتقال من هذه القرية، وعدم الكتابة في السياسة مرة أخرى، لكن صديقًا لي من الحزب، ساعدني في الالتحاق بجريدة أخرى بقرية أخرى، وسيوفر لي المنزل، أعطاني خطابًا من سارة تركته لي معه قبل رحيلها.

يومان وسأرحل لقرية أخرى.. أنا، قرأت أكثر من مرة الخطاب الذي تركته لي سارة، كان يحتوى على الآتي:

"أحبك...

سأفتقدك، وأعرف أنك ستنساني يومًا ما، ولكنى لا أستطيع منع نفسي من الاعتراف بأني أحبك، استطاع أبى أن يوفر لي السفر إلى أمريكا لدراسة التمثيل، أنا لم أره، ولكنه أرسل كل شيء مع عمي، أرجو أن تصدقني، لم أستطع فعل شيء وأنت بالمعتقل، سواء لك أو لأبيك قبل وفاته.

سوف أراسلك من هناك.

سارة."

كانت سارة تعرف كثيرًا من تاريخ بلادي، وكانت مثل جدها تحب التين والزيتون، ولكن هي رحلت الآن، كنت على وشك قبول عرض صديقي بالعمل الصحفي والكتابة في الأدب أو الفن، ولكن موت أمي الذي حدث قبل رحيلنا بيوم غير كل شيء داخلي،أنا الآن وحيد، اعتقلت أربعة أشهر فمات والدي، وخرجت لتموت أمي، وأنا لا أود أن أرى أناسًا مرة أخرى، أريد مكانًا بعيدًا، أريد أن أحمل الورود - كما صرخت من قبل مع جدي والدليل، نعم هذا ما أريده، فذات الذراع الأوحد لم تعد ولن تعود، ماتت أمي مفتقدة لذراع ومنزل، ومات أبي بينما كان يحلم بامتلاك حقل واحد مما تركه والده.

هذا الصديق.. هو ذاته الذي قدم لي العرض الأول، استوعب ما أريده وقال عندما زارني في وفاة أمي:

سأجعلك تذهب حيث الورود، ولكن.. دعني أرتب الأمور، لا يجب الاستعجال، أتفهم؟ أنا أيضًا على وشك الرحيل إلى روسيا لدراسة الإخراج السينمائي، وأيضًا اعتقلت مثلك، ولكن الحياة تسير، أتفهم؟ من يود حمل الورود، ينبغي له أن يملك حرية الانتقال، وبعملك صحفيًا ستنال حريتك، لن أجبرك على الكتابة بالسياسة؛ ولكن تستطيع أن تكتب في الفن والأدب، وسأساعدك، أتفهم؟ وخلال هذه الفترة تستطيع الإقامة عندي.

لم أملك إلا أن أجيبه:

نعم أفهم.

ذهبت معه لمنزله، كان مليئًا بالكتب، كان من أسرة غنية متحررة، في بداية الأسبوع قرأت؛ لعلي أنسى قليلًا ما حدث لي، ولكن كان وجها الحارسين لا يفارقان عينيّ ،فكرت في موت أمي وأبى، وحزنت لموتهما بعيدًا عن جدي، وصرت أحسد جدي على إصراره على الموت بجانب بئره وشجرته ووسط حقله.

فكرت - أيضًا - فيما كُتب علي ّولم ألاحظه من قبل، لقد كُتِب عليّ الترحال كالدليل، من قرية لقرية.. ومن منزل لمنزل.. ثم لخُص.. ثم منزل لصديق، وتأكدت أنى لا أنتمي إلى ما ينتمون إليه، ولا هم ينتمون إلى ما أنتمي إليه، أنا وسط طرفين في المنتصف، وهما يتحركان بمنطق: هل أنت ضد أم مع؟!

أنتمي لشعب نصفه بالخارج ونصفه بالداخل، أنتمي لأرض هم يقولون.. لنا، ونحن نقول.. أرضنا، وعشنا هنا وكنتم بيننا يومًا ما، أنا أنتمي لـ (التين والزيتون) وطور سنين.

الحقيقة.. ساعدني صديقي كثيرًا، وقد قرأت عنده كمًا من الأعمال الأدبية، التي ما كنت لأقرؤها لو لم أكن عنده، كان يتحدث كثيرًا عن السينما، ويقول إنها العالم الأساسي لفهم هذه الدنيا كحال الكتب، إنها السحر القادم، وبها ستُصنع حروب ويكون سلام، بها تستطيع أن تأمر كما تشاء، وبها تستطيع أن تعتقل من تشاء وبكامل إرادته، إنها القوة القادمة يا صديقي - على حد قوله، الصديق مسكونٌ بالسينما وأنا مسكونٌ بالورود والفراشات، وسارة مثله مسكونة بالسينما، كنت أرى أن سارة يجب أن تحبه هو وليس أنا.

إنهما متشابهان في هدف واحد، كان مثلي هذا الصديق، نحيفًا، والده يعمل عملًا مشرفًا، وتعود أسرته للحاكمين القدامى ببلادنا؛ إنه من أسرة متوغلة في العمل النيابي والسياسي، جده كان يرأس قضاء إحدى المدن الكبيرة، وتحت إمرته كان قطاع كامل، كثيرًا ما قال لي صديقي هذا.. إنه عندما يرجع سيعمل فيلمًا عني - كان يقصد فيلمًا تسجيليًا، استطعت بمساعدته أن أبدأ الكتابة الفنية، وتمكنت منها قليلًا، صارت عندي بطاقة تثبت عملي بالجريدة المبتدئة، كان يتحدث عن مخرجين هناك في العالم الآخر، وكانت رؤية الأفلام تمثل صعوبة بالغة، صرت أتابع ما تفعله السينما في بلاد عربية مجاورة، كان شجاعًا هذا الصديق، يذهب حيث يشاء، وبدأ يصاحب مخرجًا يهوديًا، جاء من أمريكا اللاتينية واستقر هنا - كحال الجميع غيره، الكل يأتي لأرضنا ويقول: وطنه الأم، ولا أعرف كيف يكون الوطن الأم؟ لم يكن أحد منهم قد ولد هنا أو أحد من أجدادهم، إنهم قبل إعلان الدولة كانوا يجهلون موقعنا على الخريطة، ولكن أُعلنت الدولة وصرنا - نحن - الغرباء.

قبل رحيله إلى روسيا بأيام كان قد رتب كل شيء لي أيضا - كما وعد، وحدثت صدفة غريبة، حيث أخذني صديقي معه لمدينة أخرى لمدة يوم واحد، كنا في أواخر السنة الثالثة بعد الستين من هذا القرن، ذهبنا لرؤية مخرج إيطالي، جاء يحضر لفيلم عن المسيح أو أحد أتباعه، كان المخرج نحيفًا - أيضا - ونظرته حادة حاسمة، كان يتحدث الإنجليزية، ومعه فريق عمل، كانت هي المرة الأولى لي التي أرى بها كاميرا سينمائية، المخرج اسمه "بيير باولو بازولينى"، تحدث كثيرًا معنا وتحدث عن إيطاليا وعن السينما، أجريت معه حوارًا وكان سبقًا لي بالطبع - في ذلك الوقت.

الغريب.. أنه كان يعرف حكايات (ألف ليلة وليلة)، سألته عن قمر الزمان وبدور؛ فقال إنه مغرم بها، ويومًا ما سيصنع فيلمًا عنها وبالاسم نفسه.

أجرى- المخرج - معنا لقاءات مصورة، وتعلمت منه شيئًا مهمًا لي، ألا وهو.. لا بد أن تحب ما تقتنع به وتدافع عنه للأبد، الحقيقة.. كان هذا المخرج مثليًا جنسيًا، ولكنه لم يحاول مطلقًا معنا، كان لطيفًا.. عابرًا كعابر سبيل يمضى لحاله بعد.. بعض الحوار.. وبعض الكلمات.

مرت سنة أخرى، ثم رحلت تجاه هدفي ومطبقًا نصيحة بازولينى، يجب أن أدافع عنه للأبد، أعطاني الصديق العنوان للمكان الذي ينتظرني، وسافر إلى روسيا هو الآخر، كان رحيل كلينا في لحظة واحدة ويوم واحد، وأخبرني أنه سيراسلني دائما بالخطابات - مثلما قالت سارة من قبل.

ساق واحدة في وطن صغير

كنت على قناعة تامة بما أفعل، وكنت أعلم أنى أسير ضد التيار، أقصد ضد كل ما يحيط بي سواء من أهل بلادي أو من جانب العدو، كانت الأمور العامة تسير من سيئ لأسوأ، ولكنى أريد أن أصير وردة فقط، ولكن كالفراشات.. لا بد لي من الذهاب إلى منبع الورد.. إلى أحد يزرعها ويرعاها، أحد يعرف متى تصحو ومتى تنام، وقد ساعدني الصديق للوصول لهذا في المكان الذي أتجه إليه الآن، هناك شيء آخر كان يحدث؛ فقد تكونت منظمة لنا بالخارج ممثلة من بعض الجنود تتحرك وتتكون لفعل شيء ما، وكانت سرية بالبداية طبعا وتمتد لتاريخ طويل.

كانت القرية الجديدة بالحدود ما بين المدينة المقدسة ومدينة أخرى، صديقي أخبرني أنها ليست بقرية - كما أظن - وإنما مكان معزول، وأن الرجل الذي هناك يعرف كيف يؤمن نفسه، ولم يقل صديقي أكثر من هذا.

(2)

إنه الشتاء.. دائمًا يرتبط برحيلي، الشتاء موسم في العام يأتي ويذهب بكل ما يحمله من مفاجآت، بالنسبة لي.. الشتاء هو من المواسم الذكية بعكس الصيف، فالصيف تستطيع توقع حال كل يوم به، أمّا الشتاء؛ فهو كالمهرة التي يجب عليك ترويضها، موسم متقلب مفاجئ، بالإضافة إلى أن شمس الشتاء تكون دائمًا خافتة ومريحة للعين، أما برودته فتنعش الأفكار وترتبها، ومطره يغسل الأقدام من خطوات للوراء كانت، ها أنا أصل لغايتي، نظرت على البعد؛ فرأيت أشجارًا عالية متراصة بجانب بعضها بعضًا ومكونة دائرة، الجبل من الخلف يغلق الدائرة، كان المكان أسفل الجبل، لا هو بالوادي ولا بالسهل، وإنما مكان في حد ذاته، ومغلق على ذاته، مثلما تغطي طبقًا بطبق.

كلما تأملت الأشجار يصيبني الإحساس بأني أتجه إلى غابة ما، وبتدقيق النظر ثانية أكتشف أنى متجه لفخ، وقد يكون من الممكن أن هناك من ينتظرني ببندقية أعلى الجبل وسيقتلني عندما أصل!! ولكن للحقيقة.. بعيدًا عن هذه الأفكار؛ كان لدي فضول عارم للاستقرار بهذا المكان، كانت خضرة الأشجار العالية والدائرية في آنٍ واحد تساعدك على الهروب من الأفكار الشريرة والسيئة، وتؤهلك للاسترخاء ليس فقط في الفكر.. وإنما إلى السير بتأنٍ كأنك تسير على الماء، لذلك؛ على الرغم من قرب المكان أمام عيني؛ فإنني أخذت المسافة في أكثر من ساعة.

(3)

دخلت المكان من بين شجرتين، ورأيت ما لا تصدقه عين، أمام عيني جنة من ورد وأزهار متناسقة الألوان، جنة من فرح وألماس، أيعقل أن تكون هناك جنة في بلاد الحروب؟ يا إلهي! أيمكن أن يكون رضاك عني كبيرًا إلى هذا الحد؟ تسمرت مكاني ولم أتزحزح خطوة، وجالت عيناي بالمكان كله، ورود وأزهار وبعض أشجار التين والفاكهة والزيتون والعنب،وبمؤخرة المكان أسفل الجبل هناك خص كبير وبجانبه خص صغير،قلت:

ها هو الحصن الذي أبحث عنه.

هدأت فرحتي.. وحاولت أن أنظر إلى الحقل من جميع الجهات، وإذا بي ألاحظ مفاجأة أخرى، نعم.. هذا الحقل مثل جدي؛ لا يتوانى عن تقديم المفاجآت كالشتاء أيضًا، الورد في ممرات، والممرات متلاصقة، ليس هناك أشجار عالية وسط الورد أو بالممرات، عندما تتأمل الممرات بوردها؛ تجد كلمة تخطر بذهنك.. الكلمة مقروءة أمامك ومقصودة، الممرات تكتب كلمة على الأرض، أتصدق هذا؟!

أيمكن أن يكون الزارع قد قصد هذه الكلمة، ذهبت يمنة ويسرة، شمالًا وجنوبًا؛ لعلني أتأكد أنني لا أصطنع هذه الكلمة، ولكن الكلمة هنا واضحة أمامي، تقرأ نفسها بنفسها وتقول:

وطن صغير.

كانت الكلمة هي: وطن صغير!!!

أيمكن أن يكتب وطن بورد في بلاد الحرب وفى جزء يكاد يكون منسيًا هنا؟

الخُص الكبير يقف على حرف الواو، والخص الصغير يقف على حرف النون، أما كلمة صغير؛ فلم يكن هناك ما يقف عليها، فقط ورد وممرات غير محاطة بشيء.

تحركت إلى المنتصف باتجاه الخص الكبير؛ وإذا به يخرج منه رجل بساق واحدة، والأخرى غير موجودة، بيده عصا كبيرة يتسند عليها، ها أنا كأني أدور.. أدور وأعود لبدايتي، الرجل يفتقد قدمًا، ومن قبل عشت مع أم تفتقد ذراعًا، رجل بقدم واحدة يكتب (وطن صغير) ويزرع وردًا في زمن الحرب، يا إلهي.. أنا بجانب رجل يصنع الجمال من دون ساق، تبادلنا التحية، وسألني:

هل جئت هنا بمفردك؟

أجبت:

نعم يا سيدي.

قال:

حسنًا.. فهنا لا يأتي الغرباء.

وددت أن أشكره على قبول حضوري.. ولكنه أجاب مقاطعًا:

لا تقلق فأنت من طرف صديق، ابن لصديق عندما كانت هناك حياةٌ أخرى.

ثم ساد صمت.

(4)

الرجل ذو الساق الواحدة يتحدث قليلًا كالدليل، ولم أستطع صنع اسم له كما فعلت مع الدليل - عندما قلت معاوية، الرجل لا تليق به الأسماء، لذلك؛ اكتفيت بوصفه - كما هي الحال أمامي - ذو الساق الواحدة الذي يزرع الورد.

كان ذو الساق الواحدة مثل اليابانيين لا يتحدث كثيرًا مع الغرباء، لا بد له من الثقة أولًا، وكان يجب عليّ أن أستحوذ على ثقته، ويكون هذا بمتابعته جيدًا فيما يفعل، وأن أثبت له أني أحب الورد، وأني جئت هنا من أجلها، كان يمتلك الرجل - ذو الساق الواحدة - مذياعًا قديمًا، كان المذياع يتحدث عن الحب والحرب، ومليئًا بأغانٍ من بلاد مختلفة.

أعتقد أنه ليس هناك على وجه الأرض لا يحب الورد بهذا الشكل مثل هذا الرجل، كان يعرف كل وردة على حدة.. بما تحس وبما تقول، متى تحتاج إليه ومتى تحتاج - فقط - أن ينظر إليها من بعيد، يعرف متى تنام كل وردة أو زهرة ومتى تصحو، يعرف ما تحب سماعه أو ما لا ترغب في سماعه، كان كالورد يصحو مبكرًا وينام مبكرًا.

صار يرقبني بحذر ويشجعني كلما فعلت مثلما يفعل بالضبط، كان تشجيعه اطلاعي على حياته شيئًا فشيئًا، بعد شهرين بدأ الرجل يتحدث معي قليلًا عن نفسه؛ فقال إنه يملك من العمر سبعين، أربعين قضاها هناك، وثلاثين هنا، لم يقل أين قضى الأربعين عامًا من قبل.

بدأت تمر الأيام والشهور، وبدأت أعمل بمفردي، كان الورد كالعروس، يجب عليك تزينيها بجانب رعايتها، ويجب ألا تخطئ في كمية المياه عندما تعطش، فكانت أشبه - أيضًا - بالمريض الذي يحتاج جرعة من الدواء، لا يجب أن تنسى ميعاد الجرعة، ولا أن تعطيه أكثر مما يحتاج.

كنا - أيضًا - نجهز بعض الورد للبيع، وكانت دورة اليوم بالنسبة لي هكذا:

نستيقظ قبل الشمس، نتوجه إلى الورود وننظف الممرات، فقد يكون بها بعض الأوراق الملقاة من فعل ريح الليل، ثم نحف الورد والأزهار، وكذلك الأشجار الصغيرة، وننتقى بعض الفاكهة التي قد طابت على أغصانها، ثم نسقى الجميع، وهنا.. نستريح، نصنع الخبز ونعد الفطور لنا، نجلس في صمت، ثم نعود مرة أخرى للأشجار العالية، ونحففها أيضًا، وندور حول المكان بأكمله من الخارج، نعود عند الظهر، نستريح.. وقد نأكل وأحيانًا لا، وقت العصر والغروب نبدأ في جمع الورد الذي سيأتي المشترى لأخذه في اليوم التالي، هكذا - تقريبًا - دورة اليوم، لا يزورنا سوى المشترى والسائق الذي يصاحبه دومًا.

(5)

المشتري رجل قصير.. بدين.. مرح.. كثير الكلام.. نصفه منا ومنهم، متزوج من يهودية، قارب الستين من عمره، وكانت لحظة مجيئه صعبة دائمًا على الرجل ذي الساق الواحدة، لا لأنه يكره المشترى؛ ولكن لأنه يجبره على الحديث دومًا، كان ذلك بالبداية، أما من بعد؛ فصرت أنا من يتعامل مع المشتري، الغريب أنه كان يأتي لي بالرسائل من صديق ومن سارة أحيانًا، ولم أعرف لماذا تصل إليه ثم يوصلها هو إليّ، نعم.. السبب الظاهر.. أنه بالمدينة وله عنوان محدد، ولكن متى وكيف تسنى لأصدقائي أن قابلوه وأخبروه بأن يوصل الخطابات إليّ؟! لا أعرف.

المهم كان يتحدث معي، وكان طيبًا حقًا، كان رجلًا متدينًا أيضًا يصلى الخمس صلوات، ويقول دومًا إن النبي محمد قد تزوج يهودية.

منذ أربعين عامًا عندما كان شابًا - أيضًا لا أعرف.. لماذا يصر دومًا على ذكر ذلك لي؟ - كان من أغنياء المدينة المقدسة، والحقيقة.. لم يكن ليحشر أنفه فيما لا يعنيه، فلم يسألني يومًا من أين أنا.. ولأي عائلة أنتمي.. وكيف لي بالوصول إلى الرجل ذي الساق الواحدة؟

على العكس؛ كان دائمًا يشكر ويمدح ذا الساق الواحدة، ويلقبه بواهب الحياة في زمن باهت، هذا تمامًا ما يقوله المشترى:

واهبُ الحياة في زمن باهت.. هذا الرجل ذو القدم الواحدة.

مرت سنوات وحدثت حرب وسيطرت الدولة القديمة على أماكن أخرى، وبدأت سبعينيات هذا القرن، لم يكن الرجل ذو الساق الواحدة يهتم بأي شيء خارج هذه الدائرة الخضراء التي يزرعها، ولا أعرف إن كان يملكها أم لا، وصرت مثله؛ أعرف العالم من مذياع ومن بعض خطابات تأتى من أصدقاء، بدؤوا ينسحبون واحدًا تلو الآخر إلى أن ظل فقط صديقي المخرج، الذي سافر لدراسة الإخراج، ولكنه لم يعد.

سارة.. آخر خطاب وصلني منها تحدثت فيه عن السينما وأمريكا ومدينة هوليوود هناك، وتحدثت عن أنها تعرفت على مخرج يدعى "سبيلبيرج"، وتحدثت أيضًا عن أنها تعرف آخرين الآن، وأنها رأت مخرجًا من بعد ولم تتحدث معه.. ألا وهو المخرج الفريد هتشكوك، ولكن؛ في العام الأخير لم يصلني أي خطاب من أحد.

(6)

في ذات ليلة بأواخر شتاء هذا العام الأخير لي بهذا المكان، أحس الرجل ذو الساق الواحدة بتعب شديد، كان صافيًا جدًا في هذا اليوم ذاك الرجل، تحدث عن ماضيه بطريقة ودودة رحيمة مباشرة، كان بالتأكيد يود أن يخبر شخصًا آخر غيره عن حياته السابقة، وكنت أنا هذا الآخر، كان الرجل بحاجة إلى الكلام والكلام، بغض النظر عن تعبه ومرضه الذي يحسه الآن.

حكى لي عن قدمه التي تركها مع أولاده وعائلته في أثناء الانتداب البريطاني لبلادنا وقت الهجوم على قريته بمساعدة الجماعات الأخرى التي هي بالتأكيد إحدى الجماعات التي نشأت من الدولة الجديدة قبل الإعلان عنها، وبالتأكيد من هذه الجماعات تلك التي يعمل بها والد سارة، وحكى لي كيف أن هذه الجماعات نفسها انقلبت على الانتداب عشية بدء إعلان الدولة الجديدة.

كما حكى لي أنه يدفع للدولة الجديدة مقابل تركه هنا؛ أي في هذا الحقل، يدفع ضريبة سنوية لهم، وإذا لم يدفع سينتهي كل هذا الجمال هنا، وحكى أنه كان يملك حقولًا كثيرة، وأن هذا الحقل الذي نحن به الآن كان معروفًا للجميع قبل النكبة ولا يزال، ولكن.. لا أحد يجرؤ على الحضور إلى هنا سوى المشتري فقط.. وهم؛ عندما يأتون لأخذ الضريبة، هم أرادوا عزل المكان وهو كان يبحث عن مكان معزول.

واستمر الأمر هكذا.. وبمرور الأيام ازداد مرض الرجل ذي الساق الواحدة، وبدأت قدمه الوحيدة في إخراج صديد غريب وكثيف، كان علىّ أن أرعى الورد والرجل، أحممه.. وأحمله ليقضى حاجته.. أصنع له المأكل والمشرب.. أنظف قدمه كل نصف ساعة من هذا الصديد، كان يرفض أن أحمله للمدينة أو نذهب لطبيب في سيارة المشترى، كان يقول:

المهمة انتهت يا بني، غدًا لن يأتي، أشم النهاية يا ولدي كما أشم الزهور، قريبة جدًا وتحاوطني.

حاولت كثيرًا أن أخفف عنه بكلماتٍ؛ ولكنه كان يصرّ على القول:

غدًا لن يأتي.

رغبت في أن يرى هذا الرجل صورة جدي وأبراهام، والغريب أنه عرف جدي من الصورة وعرف أبراهام وقال لي:

إنهما رجلان طيبان، جلست معهما كثيرًا عندما كنت أمتلك قدمي الأخرى، كنت سعيدًا أنه يعرف جدي وأبراهام، لم أخبره أن ابن أبراهام يعمل بالجماعات التي دمرت حقوله وأسرته وسلبت منه قدمه، وسكتّ.

لم تدم أيام الرجل مع المرض، عشرة أيام فقط، وقبل دقائق من رحيله دعاني - كما دعاني جدي من قبل عند البئر - وهمس لي قائلا:

هذا الحقل لك من بعدي إذا أردت البقاء فيه، يكفيك فقط أن تدفع الضريبة، المشترى يعلم هذا أيضًا، وإن لم تكن تريده؛ فخذ هذه النقود وابحث عمّا تريد.

كانت نقودًا كثيرة، كل ما باع به الورد كان في يده، حاولت التخفيف عنه، ومده بأمل ولو ضعيفًا، لكنه كان يعلم أن الساعة على وشك.. وتقترب منه، فهمس ثانية وقال:

يا بني.. لي طلب واحد وأنت طيب.. ستفعله!

قلت:

بالطبع يا سيدي

قال:

أريد أن تدفنني بأعلى الجبل وليس وسط الورد.

كنت أتوقع أن يطلب مني العكس، وأنهى حديثه معي عندما رأى ذلك العكس بعيني قائلا:

يا بني فوق الجبل لن يأتي أحد، أما الحقل؛ فغدا سيكون الحقل منازل، وبعد غد ستهدم المنازل، وبعد بعد غد ستمر من هنا السيارات، وأنا لا أحب أن تمضي من فوقى السيارات، أتفهم يا بني، وهناك شيء آخر وأخير؛ إذا لم تقرر البقاء هنا، فلا بد أن تكفّ عن زراعة الورد، فقط؛ انتظر أن تبيع ذلك الموجود الآن.. ثم امضِ.

(7)

مات الرجل ونفذت ما قاله، دفنته أعلى الجبل، وكنت - كما توقع الرجل ذو الساق الواحدة عندما أعطاني النقود - أستخدمها حال ألا أستقر هنا، بالفعل كنت أعتزم الرحيل حتى من قبل مرضه، كنت أود أن أتجه للمدينة المقدسة وأبيع الورد هناك، الآن ترك لي الرجل ما يكفى لاستئجار محل وغرفة، كنت غير الرجل وغير جدي؛ فالاثنان قد قضيا حياة أخرى من قبل، وكنت صغيرًا، أفتقد رؤية الناس والشوارع، أريد أن أحدث أو أسمع آخرين، وإذا بقيت هنا سأموت وحيدًا، نعم.. أريد أن أحمل الورد وليس زراعة الورود، أريد أن.. أن أبيعها وأظل وسط الناس، أنا لم أخلق للانعزال هكذا مثل ذي الساق الواحدة، أريد بيع الورد بطريقة الدليل عندما كان يبيع الثياب.

بينما أنتظر الانتهاء من بيع الورود جاء المشترى أكثر من مرة، وخبّرته عما أنوى فعله؛ فعرض على المساعدة من جانبه، وتعهد أن يرعى الحقل وأننا بحاجة إلى الحقل، فبدونه لن نجد ما نبيعه، وهنا حدث التالي؛ أعطاني المشترى منزلًا كان عنده للإيجار، فقد كان يمتلك أكثر من منزل، وأعطاني المحل، وقال:

سأستقر هنا مكان الرجل ذي الساق الواحدة؛ فأنا أحب أن أنتهي هنا مثله، وأظن أن زوجتي لن ترفض، دعني أدبر الأمر.

ما أردت معرفته عن الورد فقد عرفته، أحن الآن إلى شرفة وشارع، وعليّ الذهاب إلى المدينة المقدسة، كانت السنة الثالثة بعد السبعين من هذا القرن تبدأ.

في الشهر العاشر من هذه السنة - بينما أتجه للمدينة المقدسة - حدثت الحرب مرة أخرى، انتصر البلد العربي في البداية ثم حدثت الهدنة، لا تتخيل حجم الأمل الذي ولد مع هذه الحرب، توقع الجميع أن البلد العربي سيكرر (حطين) مرة أخرى، وتحسس الجميع مفتاحه القديم وقرر أن يزيح الصدأ عنه، فسنرجع إلى منازلنا، ولكن الهدنة قتلت جميع الأحلام، والحقيقة كان البلد العربي يحارب من أجل أرضه، وليس من المفتر ض عليه المحاربة من أجلنا، كانت هذه إحدى مشاكلنا منذ حرب النكبة، ننتظر من بلد آخر الحرب من أجلنا، ولكن.. هل يعقل أن نطلب من آخر الموت من أجل حقولنا؟!

كنت بالطريق وقت الحرب؛ أحمل مذياعًا وصرة، ونقودًا ومفتاحًا لمحل ومنزل صغير ليسا ملكًا لي بالأساس، وإنما ملك المشترى وذي الساق الواحدة، وصلت المدينة المقدسة مع بداية الهدنة للحرب الجديدة.

بريق المحذوف

تقوم الإنسانية على دعائم كثيرة من التضاد؛ منها على سبيل المثال: الخير والشر، التذكر والنسيان، ولكن أيضًا بجانب هذه التيمات الإنسانية المختلفة؛ هناك شيء خاص يقف وحيدًا شامخًا كجبل من الجليد أو من الصخر، لا يهم من أي شيء يتكون هذا الجبل، المهم أنه كائن في حد ذاته.. كأنه يضيء بداخل كل منا دون أن نشعر به، إنه الروح، إنه المحذوف أو الحذف - كما يقول عنه البعض، نعم.. نحن ننتمي للمحذوف ونختبئ به، آدم كان بالجنة، ثم تحولت هذه الجنة لمحذوف غائب، وصرنا معه - آدم - ننتمي للمحذوف / الجنة، وهناك مئات من المحذوفات كحال الجنة، وبتأملي لذاتي ولمن حولي؛ وجدت أنني أيضًا أحن وأنتمي لمحذوف ما بداخلي وبداخل كل شيء من حولي، بداية من حرفي اللام والراء.. وصولًا لذراع أمي ولقدم الرجل ذي الساق الواحدة، المحذوف حلم / أمل / رغبة / هدف / غائب / حاضر، ولكن دائمًا أبدًا يظل هناك وحده.

أذكر مرة أن صديقي أرسل لي خطابًا طويلًا من روسيا، ويتعلق بالمحذوف، بالطبع صديقي كعادته يربط جميع الأمور بالسينما وأنا أربط الأمور بالورد والفراشات، كان يتحدث عن فيلم يسمى(البيت الأحمر.. للمخرج ديلمر ديفز).. وذكر صديقي الفيلم بالتفصيل، وكانت قصته تتلخص في محاولة شاب وفتاة اكتشاف المنزل الأحمر الذي بالغابة، ذلك المنزل الذي لم يسبق لأحد أن شاهده من قبل، وبالوصول للمنزل تكتشف الفتاة من أبيها ومن أمها، ويكتشف الشاب من هي حبيبته التي يجب أن يهب لها روحه، هذه هي قماشة الفيلم من الخارج.

أما من الداخل؛ فيخبئ الفيلم تفاصيل أخرى منها: أن الرجل الذي تبنى الفتاة هو والدها، وأنه هو الذي قتل زوجته التي هي بالتبعية أمها، وكذلك هو - أيضًا - من صنع أسطورة المنزل الأحمر والهالة التي تحيط به من غموض، كان صديقي يحكى أن الفيلم مبنيٌ على فكرة منزل لا يظهر طوال الفيلم، ولكنه حاضر في كل مشهد، صديقي كان يخلط ما بين الفيلم وسارة، ويتمنى لو تصبح الفتاة في الفيلم هي سارة، تبحث عن البيت الأحمر هي الأخرى، لعلها تكتشف من هي أمها ومن هو أبوها، كنت أقرأ الخطاب وأركز في شيء بعيدًا عن سارة وأمها، أركز في المنزل الأحمر، كيف لفيلم أن يتكلم عن شيء (لا يوجد) ويستطيع التعبير عن ذلك؟ كيف يحذف بصريًا ما هو مهم للمشاهد؟ كيف يكشف ذلك المحذوف فقط في آخر الفيلم؟

أدركت أن هناك قيمة للحذف أحيانًا، وهناك بريق للمحذوف أيضًا، مثل رغبتنا في العودة لمنازل نعرفها وتعرفنا، ولكنها محذوفة الآن، إذن؛ أستطيع أن أتحدث لآخر عن منزل (لا يوجد)، عن شجرة (لا توجد)، عن ذراع (لا يوجد)، نعم.. ها هنا اكتشافي لقيمة الحذف الذي قامت به أم مريم أحيانًا؛ عندما كانت تحكي.

مرت أيام وفكرة بريق الحذف لم تفارق رأسي، ولكني أدرك أن الحياة ليست فيلمًا، وأن أهلي يودون عدم وجود المحذوف، وبالطبع.. كذلك هي أمنيتي، نحن نود أن ترجع القرى وتزهر الأشجار ثانية، كرغبة جميع أحفاد آدم في عودة الجنة المحذوفة، ووضع حد لهذا الخصام والغياب اللا نهائي، هنا يتفجّر السؤال التالي:هل يرجع المحذوف وحده دون فعل ما من جانبنا؟ بالطبع لا! وهل سيفقد المحذوف قيمته إذا عاد؟ لم أعرف إجابة السؤال الثاني إلى الآن... ولكنى كنت على يقين من أنه سيتوالد من عودة المحذوف محذوف جديد.

أيضًا.. رأيت أنه من الأفضل حذف بعض الأشياء والحوادث عندما قررت حكي قصتي، أعلم أنّ هناك أحداثًا تاريخية وأرقامًا، ولكن؛ أنا لا أهتم بذلك، فكل ما أرغب الحديث عنه هو طفل يرغب في حمل الورد في زمن الحرب ويهتم بالفراشات، لم أشعر للحظة بوجوب سرد هذه الأحداث وتأريخها، كما لم تكن علاقتي بأبي علاقة قوية مثل علاقتي بجدي أو بأمي أو بزارع الورد، لذا؛ كان من الطبيعي أن أفضل المحذوف في علاقتي بوالدي عن ذكره، كل تلك الأفكار كانت كالقملة تأكل فروة رأسي وأنا أغادر حقل الرجل ذي الساق الواحدة، وطال المحذوف أيضًا سارة وجدها في بعض الأشياء، ولذلك؛ سرت الخطوات مغمض العينين كأني تائه في حلم ما، كنت أحلم أحلام اليقظة وأنا أسير، أول ما حلمت به كان غريبًا حقًا، كنت أسير في طريق طويل يصل قريتين بعضهما بعضًا، وفى المنتصف - عندما وصلت قرب الجبل - وجدت سيارة واقفة وبها كثير من الجنود، على البعد كانت تقترب فتاة من بلادنا شعرها ينسدل من ورائها ورائحته تسبقه، كانت تقترب والشمس تغرب ببطء كأنها تفسح المجال لهذا الجمال الشارد، الذي يقترب بثقة مرعبة.

نزل الجنود وتراصوا في مواجهة الفتاة، كنت قد اقتربت أيضًا، كلما اقتربت الفتاة قويت الريح، وعندما صارت العيون تكتشف بعضها بعضًا؛ قامت العاصفة؛ فطارت العربة، وكل جندي تشبث بالأرض بصعوبة، وبدأ يطلق النار في جميع الاتجاهات، الفتاة كانت في ثوب عرس أبيض طويل، وبالتدريج.. سقطت أمطار لونها أحمر، وتحديدًا كانت الأمطار نقاطًا من الدم الساخن الملتهب، تحولت أنا لطائر يصرخ ويصرخ في الفضاء وفى العاصفة، ثم تحولت لكلب، وأخير تحولت لسلحفاة ولم أتحول بعدها لشيء آخر، أما الفتاة؛ فلم تتحول لأي شيء، ولكن الدم يحوطها وفي دورانه السريع المخيف حولها يمنع عنها الطلقات في البداية قبل أن يتحول الجنود لنباتات صحراوية، ثم لفأر ضخم.. بألف قدم وألف فم.

بعد فترة تقارب الساعة.. عدت لذاتي، ومن بعد؛ وجدتني بالفعل أمام سيارة جنود وفتاة مقتولة أسفلها، الفتاة عارية تمامًا والدم يسيل من بين قدميها، ومن الواضح أنه دم العذارى، أنظر إلى الفتاة أسفل السيارة والجنود ينظرون إلي والسلاح مصوب تجاهي، أوقفني الجنود وفتشوا صرتي وملابسي، ثم أمروني بالذهاب ومتابعة سيرى إلى حيث أتجه، أشرت بيدي إلى الفتاة؛ فإذا بهم ينزلون على ضربًا وسبًا وفجأة تحولت لكلب بالفعل؛ فارتعب الجميع، خرجت الفتاة بصعوبة من أسفل السيارة، وإذا بكل شيء يختفي بعد دقائق معدودة، الحقيقة.. لا أعرف إذا كنت قد قمت بالحذف هنا؟! أو أن هذا مجرد تخيل؟! أم ترى...

ماذا حدث فعلًا؟

دراجة تخبئ قنبلة في أحشائها

كنت في الأسبوع الأول بمدينة الله وكأنى قد تحولت لنملة نشيطة تود معرفة كافة الشقوق والخبايا، وكانت طبيعة المدينة تساعد على هذا النشاط، منازل متجاورة؛ متساوية العلو أحيانًا وأحيانًا أخرى تجد منزلًا أعلى من الآخر، طرق أشبه بممرات سرية، عبارة عن أزقة صغيرة تصلك من باب لباب، وحكاية الأبواب بسيطة جدًا ومختصرة، فكل باب هو أول كل حي وآخره فى نفس الوقت، الأمر له علاقة بالحماية العسكرية منذ القدم، وهناك أكثر من بلد عربى يشترك فى نفس الصفة، وذلك أمر طبيعي فمنذ القدم وبلادنا تقوم على حكومات عسكرية وإن اختلفت مسميات العصور، الأمر المثير بالنسبة لي في مدينة الله هو أن تراها من أعلى سواء من تلة أو من سطح منزل، إنها اشبة بسحلفاة ثابتة لا تتحرك، سحلفاة ترسم لوحة بألوان رمادية مثل رسومات بيكاسو.

كانت رغبتي في إطلاق طائرة ورقية ملحة، كنت أحس أن لي طفولة ضائعة في هذه المدينة التي لم أولد بها، رائحة الجدران ولون الأبواب والمنازل بها عبق غريب، عبق يتسلل إليك فى سهولة مرعبة وعندما يتمكن منك يجبرك على السير والسير دون توقف، تلك الشوارع الضيقة الملتوية \المستقيمة\الصاعدة والهابطة كالأرجوحة الناعمة لا تجعلك تتوقع أبدًا أنك هنا في قلب مشكلة الحرب والسلام، كيف يكون هنا القتل والأشخاص على مختلف الديانات يغدون ويأتون بلا توقف؟؟ كيف يكون القتل هنا والقمر يحرس أبواب مدينة الله وأزقتها؟؟

ولكن الحقيقة تظل حقيقةً، وإن امتلكنا كل مكونات الخيال، فبرغم نظرتي هذه لمدينة الله الجديدة إلا أن حوادث القتل كانت هناك، وأيضًا، كانت الناس تنظر إليك وكأنك الغريب الذى لا بد له من الرحيل، غربة في بلدك وغربة داخلك، تلك الغربة التي تأكلك من العظم قبل اللحم، كم أنتِ قاسية أيتها الحياة، ولكن لابد لنا من أن نحياك.

عامة المدينة المقدسة، سحر من حكايات، أشبه بحكايات القوس المليء بالشعر الأبيض - أقصد أم مريم - أينما حطت قدماك، تكتشف شبحًا من الماضي، يختلف عن شبح هاملت، حائط يبكي لهم، وبالنسبة لنا منه عرج الرسول، مسجد بقبة فريدة شامخة، أبواب تعلن بداية كل حي وشارع، أزقة من ونس، ها هو تخيلي المسبق عن مدينة الله، التي تعجز عن اختيار مالكها، ويفشل الجميع في فهم صمتها الأبدي، مدينة ليست ملكًا لأحد، إنها مدينة الله الجديدة، هكذا هي كما هي، قد تكون ملك طفلٍ أو شيخٍ أو امرأة، لكن لن تكون أبدًا ملكًا لبندقية أو معتقل.

مدينة تصلح لألف دين وألف ملة إن أرادوا أن يعيشوا بها فقط؛ وليس أن يقتتلوا، الأطفال يلعبون لعبة العسكر والحرامية في بطون شوارع ليست بعيدة عن شجر التين والزيتون، والأحلام تختبئ من قنبلة في أحشاء دراجة، أو طلقات تطلع من فوهة دبابة كشيطان لعين، أناس يعزفون موسيقاهم بجانب ساحة الحائط، وأناس تنزف موسيقاهم في صمت، تستمر رغبات في السير البطيء مثل قطارات بداية القرن، وأنا.. يسير وردي باتجاه لم يختره، اتجاه يجبرك على الانتقام أو التحلي بالصبر المرن وقوة الإرادة، مدينة الله الجديدة بخيلة في شمسها، وعفيفة في أمطارها، وخبيثة في ظلمها.

يقولون دائمًا إن أقصى البلاد شراسة وقهرًا هي العواصم، فبها تكمن جميع خبايا الشر والغدر، مدينة عاصمة هي مدينة خبيثة وإن كانت مدينة الله الجديدة، كيف لمدينه تخجل من الحقول أن تصبح رحيمة، تقتلني المدينة المقدسة عندما أستسلم لحبها، وعندما أحتاط منها تلاحقني بدلالٍ ومكرٍ كثير، أنا هنا في المدينة المقدسة، ويجب أن أعيش، ويجب أن أجبرها على الخضوع لظلي ولوردي، إنه رهان وعليّ أن أربحه بكل ما يتطلب من تضحية، ومن بعد قد أفكر في الذهاب لمدينة البحر.

(2)

كان منزل الرجل قريبًا من المحل أيضًا، السنة الأولى كم كانت صعبةً ومثيرة! الجميع لم يرحب بوجودي، كلهم أرادوا طردي، ولكن المشترى ساعدني كثيرًا في البداية، كنت على وشك دفع الضريبة أيضًا هنا، كما كان يدفع الرجل ذو الساق الواحدة عن حقله، التحقت مجددًا بالحزب الشيوعي، كان الرفاق يعرفون رفاق الحزب القدامى بقريتنا السابقة قبل الرحيل تجاه الورد، رأيت أنه من الأفضل استخدام ما ساعدني فيه صديقي من قبل، ألا وهو البطاقة الخاصة بالجريدة، لا بد لي من الدفاع عن ذاتي، ليس بالورد بداية؛ وإنما بأوراق كما يريدون، العواصم تحب أن تكون رسميًا في تعاملاتك، أن تكون رجلًا يملك حيزًا ما من وظيفة ما، وإلا أكلتك العواصم، لذلك؛ استطعت الالتحاق بجريدة وبدأت أكتب عن السينما مرة أخرى، وكانت هنا دار للعرض السينمائي، فالسينما هنا تعود لخمسينيات القرن، أيضًا التليفزيون قد بدأ في البث، القرن الجديد يتعامل بالصورة الحية، فلا وقت لحكايات أم مريم أو لوحات عصر النهضة.

كان محقًا - صديقي - في حبه لدراسة السينما، ولحسن الحظ جاء خطاب منه يقول إنه سيعود قريبًا جدًا، بالطبع كنت مدينًا له، ومدينًا للمشترى الذي ساعدني هنا، وأيضًا لأنه يمتلك عنوانًا ثابتًا تستطيع الخطابات أن تعرف طريقي من خلاله، كان هناك حديث غير عادي عن فيلم يسمى المبارزة لـ"سبيلبرج" الذي تعرفت عليه سارة؛ عندما قالت ذلك في خطاب منذ زمن، كان الفيلم بسيطًا وقويًا ومحددًا وواضحًا ومخادعًا في آن واحد، يتحدث عن رجل في سيارة يتعرض لمطاردة من قاطرة أو شاحنة بترول من خلفه، دون معرفة للسبب، أو أية خلفية توضح لماذا كل هذا الغضب والرغبة في قتله! كان أيضًا الحديث عن مخرج منهم - يدعى موسى - لا ينقطع، هنا تذكرت حديث صديقي لي عندما قال قبل أن يرحل إلى روسيا:

السينما بها تصنع حروبًا وبها تصنع سلامًا، إنها القوة القادمة، وبها يمكن لك أن تعتقل من تشاء بكامل إرادته.

كتبت مقالة عن هذا المعنى دون الخوض في أية اتهامات، كنت مخادعًا كالفيلم.. تقريبًا، كان الفيلم قد صنع منذ عامين، الحقيقة لا أودّ أن أدخل المعتقل من جدي، أنا أودّ أن أكون حرًا للتمهيد في تنفيذ ما رغبت فيه، أقصد حمل الورد، وكثيرًا ما سألت صديقي دائمًا قبل سفره:

لماذا لا توجد أفلام عن الورد في حد ذاتها؟

كان يجيب:

الورد يتطلب يدًا.. واليد تتطلب روحًا.. والروح تتطلب إنسانًا.. والإنسان يتطلب منزلًا.. والمنزل يتطلب قرية.. والقرية تتطلب مدينة.. والمدينة تتطلب بلدًا.

نعم.. الورد يتطلب كل هذا، ولكن؛ قد يمكن أن يكون الورد بلدًا في حد ذاته والرجل ذو الساق الواحدة أثبت هذا من قبل.

(3)

أستيقظ في مدينة الله الجديدة مصحوبًا - في الغالب - برؤية مشوشة للأمور، كأني لا أذكر اسم اليوم أو التاريخ الذي نحن به الآن، وأظن أن هذا أمر طبيعي؛ عندما لا تحب ما لا تفعل، أو عندما تشعر بانكسار ما يتخلل حلمك بمكر، ومدينه الله الجديدة لها يد في هذا أيضًا، فالأمور بها مثل باقي بلادنا؛ تكرر نفسها ولا تتزحزح أبدًا عن الاختلاف أو ترك مساحة للاختلاف، القتل نفسه / الرعب نفسه / الظلم نفسه، تطلع الشمس وتغرب، وتنزل أمطار وتجفّ السماء، وكل فرد هو ما هو؛ يحلم بانتظار جودو، ونحن نعرف أنّا جوده لن يأتي أبدًا، الكتابة في الجريدة تأكل حلمي كالفأر الصبور، وأنا يجب أن اتخذ قرارًا ما.

فهناك من يحقق حلمه أو من هو في طريقه لتحقيق حلمه، وها هي سارة قد اختفت بحثًا عن حلمها، ولكن؛ كانت أخبارها هنا في الجرائد تتحدث عن نجمة يهودية بدأت تسطع في هوليوود، وبدلت اسمها لتصبح إيرما، هي أحبت التمثيل وتفعل ما تحب الآن، وغدًا ستصنع وطنًا يختلف عمّا عرفته من قبل، وطنًا مرسومًا على ورق من خيال شخص لم يعش أبدا بيننا، ولم يعرف أني وسارة كنا نلعب في الحقل نفسه والأرض نفسها، التي كانت ملكًا لجدي .

(4)

الحياة بلا صديق حياة ميتة، الصديق يختلف في قيمته عن قيمة الزوجة أو الأخ، الصديق ليس مجبرًا على حبك أو التضحية من أجلك، بعكس الزوجة أو الأخ، فهناك رابط خفي يجبرهما على الإخلاص لك مثل عقد الزواج أو رابط الدم، لذلك؛ كنت أنتظر عودة صديقي بلهفة غريبة، كنت أشعر إن لم يعد أنني لن أقدر على بيع الورد، أعرف أنني لا يجب أن أربط صديقي بحلمي، ولكن ذلك ما كنت أشعر به.

وفي صباح يوم؛ نفذ صديقي وعده وعاد، عاد صديقي وبدأت الحياة في الهدوء نوعًا ما، وبدأت بيع الورد بجانب عملي المتقطع صحفيًا، بدأت أنفذ في حلمي كالسهم مصحوبًا بقوة خفية سحرية، وهي عودة صديقي، وبكاميرته الصغيرة التي عاد بها؛ كان يلمح أن قوته نفذت بقلبي واستقرت داخله للأبد، طلب منى أن أساعده في عمل فيلم قصير معه، وافقت، كنت متأكدًا أن التنفيذ سيستغرق شهورًا قبل البدء في التصوير الفعلي للفيلم، الذي ما زال مجرد فكرة الآن.

لا يمر يوم إلا ويتحدث صاحبي عن السينما وما شاهده في روسيا وما تعلمه، كان معجبًا جدًا بمخرج يدعى تاركوفسكي، وأيضًا كان يحب كثيرًا المخرج مصطفى أبو علي، وكان مثله قد درس بالخارج ويصنع أعمالًا مميزة.

صديقي المخرج يحكي مثلما تحكي أم مريم، وله طريقة مغرية تجبرك على التركيز معه في أثناء الحكي، كل مرة يحكي فيها؛ أكتشف كم هو عميق سحر الصورة المصورة، وكم هو صعب أيضًا، كان يقول دائمًا:

مخرج لا يعرف الحكي أو لا يعرف كيف يكتب الحكي؛ لا يصح له أن يعمل وراء الكاميرا، وكان محقًا.

صديقي يسألني أسئلة أعجز عن إجابته عنها، يسألني عن أبراهام وعن علاقتي بسارة، كنت شغوفًا بقصته العاطفية التي حكى عنها مع فتاة روسية، ولكنه أخبرني أن القصة انتهت قبل عودته، وأنه رفض الزواج منها على الرغم من رغبتها في العودة معه، كان يقول دائمًا:

أنا تزوجت الكاميرا.

كنت لا أملك التعليق لأني مثله تزوجت الورد، ولن أطلقه يومًا ما، حتى إن قابلت "بدور" حبيبة "قمر الزمان".

(5)

كانت الجهة التي تمثلنا كالمفاتيح التي نحملها مسكينة، تنتقل من بلد لبلد كأن الترحال مصيرها كمصير من تمثلهم، نعم.. كانت عنيدة هذه الجهة ومحبوبة وقوية، ولكن أن تود استرداد منزلك من شخص يقيم به أمر صعب كصعوبة أن تصنع فيلمًا عن وردة، أحيانًا تنال التأييد هذه الجهة، وأحيانًا يتطلب منها انتزاعه من البلاد الأخرى، وجدت جهتنا فرصة للجلوس في اتفاقية السلام بين البلد العربي الذي خاض الحرب الأخيرة والدولة المعلنة منذ أعوام قبل حرب النكبة، ولكن لم تحضر جهتنا، الحقيقة.. كانت هذه الاتفاقية محل خلاف شديد من الجميع.

(6)

كنت لا أهتم سواء بالحرب أو السلام، فأنا لا أعرف حتى النطق بهاتين الكلمتين، كان المحلّ يتقدم في العمل، وبدأت التهرب من الكتابة والإخلاص للمحل، المحل بالنسبة لي كان هو الرهان على وجودي في أرضى وأرض مدينه الله الجديدة، لذلك؛ كنت على استعداد لتحمل أي شيء من أجل هذا المحل، جاءت دعوات كثيرة تعرض عليّ إجراء حوار أو فيلم تسجيلي عني، عن رجل يبيع الورد في بلاد الحروب، لكنني رفضت جميع العروض.

بتقدم المحل؛ اضطررت للاستعانة بشاب للعمل معي، هناك من يتحدث عن منظمتنا / جهتنا، وعن قائدنا الجديد وعن ضرورة تكوين جيش سري للحرب؛ كنت أذهب إلى السينما من وقت لآخر بصحبة صديقي، بدأ في تنفيذ فيلمه الأول، واستطاع أن ينفذه بعدما قابل العديد من الصعوبات، فقد كان فيلمًا يتحدث عن صعوبة زوج يريد الذهاب لبلده مرة أخرى؛ حيث يود رؤية زوجته، ولكنه قد فقد جواز سفر.

جاء خبر من بعيد عن حقل الورد، وكان خبرًا حزينًا بالنسبة لي، فقد توفي المشتري وكان الورد يأتي من خارج البلاد ومن حقول أخرى داخلها، ولم يكن، بحق كالورد الذي كان يزرعه الرجل الذي بقدم واحدة، وصارت الأيام والشهور تفرّ مسرعة بجميع جراحها وكل الصمت الذي تكنه في ظلال شمسها.

(7)

مرت سنوات لم أرغب في الزواج، كنت أوفي بعهدي لزواجي من الورد، لم أتذكر سارة، أقصد إيرما إلى أن صنع صديقي فيلمين آخرين، صار - لحد ما - معروفًا، وصاحب مخرجين آخرين، منهم المعتدل في تفكيره، ومنهم الذي يستخدم السينما ضدنا كالبندقية، ولكن والد سارة ابن أبراهام، ها هو الآن أراه، أعرفه، أتأكد من ملامحه التي دائمًا ما تخيلتها كتخيلي الدائم للحارس الذي وضع طرف السلاح بمؤخرتي، تدور الدنيا هنا بشكل عجيب،ها هو والد سارة حديث الجميع هنا، فقد نجح في الوصول لرئاسة الحكومة الجديدة في الدولة الجديدة / الدولة العدو، الذي أخبرني أنه هو.. صديقي عندما قال لي:

أرأيت والد سارة.. أصبح رئيسًا للحكومة الجديدة، وهو يكره ذاته قبل أن يكرهنا!

إذن ها هو الأب الذي ترك ابنته ورحل، ثم عاد ليسفرها إلى أمريكا، ها هو الذي ضرب أبراهام؛ لأنه يجلس مع جدي، ماذا لو عرف أن سارة قالت لي ذات يوما أحبك؟؟

وماذا لو عرف أنى هنا أبيع الورد؟؟ وتذكرت شيئًا غريبًا، أنا هنا منذ أعوام في مدينة الله الجديدة ولم أرَ أبراهام؟ تُرى.. أمات؟ لكنه كان يصغر جدي بنحو عشرة أعوام؟

كان صديقي - أحيانًا - يسجل خطواتي بالمحل بكاميرته، ولم أكن أعرف؛ هل ذلك هو الفيلم الذي قال يومًا ما إنه سيصنعه عني أم لا؟ كان يتبعني بالكاميرا عندما أتحرك بدراجتي وأنا أوصل الورد لزبون ما أو لمحل ما.

أحب عملي وأحب تحديدًا أن أوصل الورد بنفسي على دراجتي، فأنا رغبت صغيرًا أن أكون حاملًا للورود، والآن.. أشعر بأني أستجمع كل ما فقدته من قبل، أمي / أبي / جدي / حرفي اللام والراء / وأتخلص من فكرة أن لي قدمًا أطول من الأخرى، أنا بدراجتي أشعر بحرية كاملة، أمر بدراجتي هنا وهناك، ولكن دراجتي قد تحوي قنبلة يومًا ما، أو قد تصير مجرد دراجة لا تحمل إلا الورد!!

ليكن.. ففي الحياة مسموح بكل شيء.

ضجيج الوردة

بالطبع لم تكن الحياة وردية، وكذلك كنت أعي ذلك، كان القتل والتشريد، وكان العزل، إنهم يملكون حدوة الحصان والبندقية؛ ونحن نحاول ونحاول، ولكنني على المستوى الشخصي لا أعرف السلاح، عشت بجانب الفراشات والورد والترحال؛ فكيف لي باستخدام سلاح؟ أنا أعرف الكتب والكتابة، وهناك شاعرنا يكبر ويكبر ويحارب بقصيدة، مثل صديقي يحارب بكاميرته، وأنا أحارب بوردة، أثبت بالوردة أنني حي، أبيع لأحياء يقدرون الحياة ويفهمون لغة الورد، أنا أدرك أن مدينة الله الجديدة لا تحب البندقية، وأنها خرساء، أعبر بدراجتي مثل الريح في أزقة وشوارع، علّني أموت طائرًا بصحبة وردة، للسياسة أناسها وللحرب أناسها، ماذا عليّ أن أفعل؟ أعجز عن التفكير؟!

أنا لست كوالد سارة أستطيع أن أقتل، ولكنى يجب أن أدافع عن بلدي، ولا بد أن أقتل؟! التفكير يقتلني، كم من المرات تحدثت في ذلك مع صديقي المخرج، لكنه مثلي لا يستطيع أن يقتل!!

أذكر القرى التي مررت بها، وأذكر الآن أن الوضع أصعب، أذكر الحارس في المعتقل، وأذكر الدليل وأم مريم، رأسي سينفجر بي، ومع ذلك؛ فلحياة تسير بكل مساوئها.

(2)

ذات يوم.. جاء صديقي وأخبرني أن سارة ستكون بالمدينة المقدسة مع فيلم لها، والغريب أنني باليوم نفسه ذهبت إلى ساحة الحائط، وهناك؛ لمحت سيدًا عجوزًا، يسير ورأسه يكاد يلمس قدميه، كنت راكبًا دراجتي، وكدت أن أصطدم به، ولكنني تفاديته ونزلت من على دراجتي؛ وإذا به أبراهام، سنوات وأنا هنا ولم أره، وعندما يقول صديقي إن سارة ستكون هنا بعد غدٍ.. ثم أرى جدها.. لم يكن كل ذلك صدفة، وإنما الفأل السيئ الذي أخبرتني به أمي من قبل، قلت له باندهاش :

سيدي أبراهام.

لم يتعرّف عليّ في البداية؛ وبعد دقائق تعرّف عليّ، أخبرته بوفاة جدي وأمي وأبي، وحزن كثيرًا.. لكنه قال:

من الأفضل لك يا بني ألا توقفني مرة أخرى، أخشى عليك من حراس ابني.

قلت:

معي صورة لك أنت وجدي.. أتود رؤيتها؟

لم يجبني ومضى، الغريب أنه تحدث بالعبرية ولم ينطق كلمة عربية؛ مع العلم أنه يتقنها.

صرخت:

أتود رؤيتها يا سيد أبراهام؟

التفت وقال:

اختفت الحقول والفراشات يا بني!!

ذهبت وراءه وقلت:

أتعلم أن سارة ستكون هنا بعد غدٍ؟

أجاب:

نعم.

قلت:

وأنا سأحضر.

قال:

من الأفضل لا.. يا بني، أما الصورة؛ فأحضرها غدًا، سنتقابل هنا بساحة الحائط، ولكن؛ كن حذرًا صحبتك السلامة يا ولدى.

الحقيقة.. كنت سعيدًا لرؤيته، ولم أترك مساحة لتحذيره في منعي من الذهاب له غدًا.

(3)

قضيت الليلة في قراءة ديوان شعر لشاعرنا، ثم نمت، كان الحلم غريبًا، وعكس ما قرأته من قصائد شاعرنا الكبير، هذه هي المرة الثانية التي أحلم فيها بأبراهام، وهذه المرة لم يطلب مساعدة مني كالحلم الأول، بل العكس؛ كان يبتسم في الحلم، يأتي مقتربًا من محلي، لا يدخل، وإنما فقط يعبر الباب أكثر من مرة دون كلمة واحدة، وعندما خرجت لتحيته أو دعوته للدخول واحتساء الشاي؛ وجدته تحوّل لثعبانٍ غريب، نصفه الأعلى فراشة بجناح أوحد دون الثاني، ونصفه الأسفل أقدام كثيرة.. كثيرة.. تعجز عن إحصاء عددها، صرخت:

سيدي أبراهام.. لماذا أنت هكذا؟

لم يجبني.. وبدأ يطير ويحط فوق نوافذ الشارع وهو ينظر لي، وكل نافذة يحطّ عليها يتحول لونها مباشرة إلى لون غير ألوان الطيف، لون متعب للعين وقبيح جدًا، حاولت الصراخ مرة أخرى:

سيدي أبراهام.. لماذا أنت هكذا؟

فإذا به يعود ويقول:

يجب تغيير النوافذ!!

سألته:

لماذا كنت من قبل بهيئة...

قاطعني - وهو يردد كلمة واحدة:

أحمق.

ثم طار على هيئته الأولى بإضافة قليلة.. وهى أنه تدلى منه ورد محروق.

(4)

ذهبت للمحل في الصباح كالمعتاد ومعي الصورة؛ فأخبرني العامل - الذي يعمل عندي - بأن بعض الجنود أتوا إلى هنا، فتشوا المكان وهرسوا الورد بأقدامهم، الحقيقة لم تكن تلك مشكلة لي؛ لأن الورد الجديد سيأتي اليوم.. وبالفعل؛ جاء.. ولكن لماذا يرسل والد سارة جنوده؟ وهل حقًا أرسلهم هو؟ وإن كان.. فما ذنب الورد؟ ألم يكن في مقدورهم أن يقتلوني برصاصة وينتهي الأمر؟!! وهل لم يكن هناك ما يفعله بحكومته أفضل من هرس الورد وتشريد قرى وقتل أبرياء؟ ألم يكن في مقدوره التفكير في جعل شعبه ونحن نعيش أفضل مما نحن فيه؟ ولكن.. الواضح أن ذلك كان إنذارًا واضحًا من حراس والد سارة، ذهبت إلى أبراهام، واستغرق الأمر دقيقة واحدة، وبمجرد أن رأى الصورة بكى الرجل العجوز وتركني، كنت أرغب في إخباره بالحلم الذي رأيته؛ ولكن لم يعطني الفرصة، بالإضافة إلى أنى خجلت من الإصرار على إخباره بالحال التي رأيته بها، فقد كان هرمًا كأنه يقترب من موت محقق.

(5)

ملحوظة يجب الوقوف عندها برهة:

المحل نقطة تصنع ضجيجًا في مدينة الله الجديدة بالنسبة لحراس المدينة، ومع ذلك؛ كنت أصر على إعادته للحياة، عندما يريدون إلباسه الخرس، نقطتي لن تكف عن الضجيج ما دمت حيًا، وما دام الورد يزرع هناك في مكان ما بالأرض، يدمرون المحل.. يدمرون المنزل.. لا يهم، سأبيع الورد وإن جلست بحافة الرصيف، كانت معي أوراق تثبت ملكيتي للمنزل والمحل، والمعروف يرجع للمشتري عندما كتب لي الاثنين بيعًا وشراءً قبل وفاته مباشرة، وبعلم زوجته، لي منزل ولى ورد وسأظل أدافع عنهما للأبد، نعم.. إعادتهما للحياة كل مرة تستنزفني، ولكن؛ ليس هناك أجمل من رؤيتهما يعودان للحياة ولصنع الضجيج مرة أخرى، شرفات منزلي الآن تعجز عن الوقوف لتطل على ما تريد في الشارع الكائن أسفلها، وحوائط محلي تتباعد عن بعضها بعضًا، ولكن ما زال هناك متسع للنوم والحلم، ومتسع للورود، وهذا يكفى الآن في مدينة الله الجديدة، نعم.. أحيانًا أجد صعوبة في الحصول على الورد، وأحيانًا أخرى.. لا أجد صعوبة في ذلك، ورغم كل شيء، أتنفس ليل نهار ما أرغب فيه.

(6)

كنت أنوي الذهاب لصديقي، ولكن طلقة من بندقية أصابتني بينما أنا عائد إلى محلى، الحمد لله أنها لم تصبني في مكان خطير، جاء بعض الأشخاص وأخذوني إلى محلي الذي يبعد بمسافة خمس دقائق بدراجتي، جاء الصديق وأخذني إلى المستشفى، ولم تكن الإصابة خطيرة، خرجنا في الصباح التالي، ومن المفترض أن نذهب مساءً لرؤية سارة وفيلمها، صديقي كثيرًا ما يتحدث عن أن سارة صارت أخرى، ليس فقط في الاسم؛ وإنما في الفكر، وذكر لي مشاجرة عابرة بينهما عندما رآها صدفة؛ اتهمته بصفة لا يمكن أن تقال هنا، وكنا نود الذهاب فقط لرؤية الفيلم وليس لتحيتها.

تركني الصديق بمنزلي ومضى، المحل كان مغلقًا في هذا اليوم، ذهبت عيناي في النوم قليلا، وإذا بالمنزل يشتعل فيه الحريق، ولم أستطع الهروب، لمستني النار ولم أدرِ شيئًا بعدها، لم أدرِ إلا وأنا بالمستشفى مرة أخرى، كان ذلك بعد ثلاثة أيام من الحريق أو الانفجار بمعنى أصح، لم تأتِ سارة ولم أرها هي وفيلمها الجديد، فقط أرسلت مع صديقي ورقة وكلمة واحدة، وكانت مكتوبة بالإنجليزية وبها الآتي:

" تحياتي.

يجب أن تأخذ حذرك.

سارة".

كنت يجب أن أرسل لها الرد وأقول:

والدك يقتلني ببطء شديد، كأنه يتلذذ بفقدي لجسمي خطوة خطوة، ولكن لم يكن لها عنوان محدد كحال جميع المشاهير للأسف، بالإضافة إلى أنني لا أعرف إيرما، ولكنى أعرف سارة عندما كانت لا تتجاوز العشرين من عمرها.

(7)

مر شهران وأنا بالمستشفى، خرجت؛ فوجدت المحل مهدمًا هو الآخر للمرة التي لا أعرف عددها الآن، بدأت في إعادة المحل مرة أخرى للحياة - كالعادة، وصرت مشوهًا في الوجه قليلًا، ولا أستطيع استخدام يدي اليسرى، أو حك وجهي بيدي الأخرى، صرت كأنني أمي بذراع أوحد رغم وجود.. الثاني، بدأ المحل في العمل مرة أخرى، ومضت للأمام قليلا الحياة، وربطتني علاقة صداقة بأم رضا؛ تلك التي تشتري وردة واحدة، وسأخبركم بها من بعد.

صار صديقي المخرج يحصد نجاحًا تلو الآخر، وصرت أشعر بالتعب من وقت لآخر، مرت سنوات قليلة، كانت البلاد تفقد أحشاءها أكثر فأكثر، واستحال التحرك من قرية لأخرى، وصار من هو بالخارج مكانه.. ومن بالداخل مكانه.

كم من زوجات لا يستطعن رؤية أزواجهن!! وكم شيخ افتقد رؤية ابنه!! لذلك؛ كان الجميع على شفا هوة من الانفجار، وحدث أنه ذات يوم - بسبب قتل بعض العمال منا في بلدة أخرى - انفجر الغضب والرفض وحدثت المعجزة الأولى، معجزة الغضب، معجزة تخرج من بئر مصاحبة لشجرة تين وزيتون، وفى لحظة تلونت الحوائط والنوافذ، صار للفراشات لسان وحلم، وانتبه الخارج لنا، وصار صديقي يسجل كل ذلك بكاميرته، فأنبتت القصائد عروقًا وعرشت منازل، ثم استيقظت مفاتيح هذه المنازل، تلك المفاتيح الصدئة في الجيوب، وكذلك التأييد من البلاد الأخرى، كنت أحمل غضبى بوجه مشوه وذراع أوحد، أرميه وأنده به أمي وجدي وأبى، أقذف غضبي ويصاحبه الدليل إلى مكانه الذي لا بد أن يصل إليه، الغضب كان في المسافة بين يدي والجندي هناك ببندقيته، يغنى انتقامًا لبئر وشجرة، يصرخ انتقامًا لمؤخرتي، هكذا الأيام الجديدة مع الغضب.

(8)

هناك تفاصيل مفيدة مغرية للانتباه الآن - أيضا، تفاصيل تشبه أحلامًا متقطعة، كتلك التي تسمى أحلام اليقظة، قد تصيبك أيضا بالصداع عندما تفيق تماما من نومك، كخبر مقتل بازولينى في العام 1975، أو مشهد أن يعبر جدي من كف يدي كأنه الماء، وفي البعد أبي يصرخ بصوت مكتوم، تعجز عن سمعه أمي، بينما هي هناك تجهز الخبز، أو أنه لم يتكرر اعتقالي بينما تكرر لصديقي المخرج، وكل مرة يخرج صامدًا قويًا، لكن النقطة المهمة لي الآن؛ أنه لم يتكرر اعتقالي!! عندما أركز الآن أجد أنه أمر مقصود عدم اعتقالي مجددًا إلى الآن، فلم يعد مفيدًا لهم، فأنا محاصر ومعتقل داخل وردي ، أبراهام يحاصرني في الحلم ويراقبني، وابنه يرأس الحكومة وحفيدته ترسم حدود الورد بأفلام مصورة، فلمَ الاعتقال؟

أناس بلادي معتقلون داخل وردة لم تجد فرصة للإزهار ولو مرة واحدة أبدية، أذكر تفصيلة أخرى بعيدة؛ هي أم مريم عندما حكت لي حكاية في جمل قصيرة متواصلة محددة، قالت:

رجل يخرج ليلا إلى البحر، ينظر إلى الماء؛ فيسمع موجة تناديه، يذهب تجاه الصوت، ولكن الأمواج تتلاحق، ولا يعرف أية موجة تحديدًا تناديه، الصوت يذهب ويجيء، الرجل تزداد حيرته، فيقع على حرف البحر، ويغوص في حلم قصير، يفيق؛ فيجد البحر صحراء، ويأتيه صوت من ريح، ولكن الرياح تتعدد، فيقع ويحلم مرة أخرى، يفيق؛ فيجد نفسه في منزل، يسمع حائطًا يناديه، ولكن المنزل به حوائط كثيرة، فيقع مرة أخرى ولكن هذه المرة لا يحلم، ويتكرر الصوت، ويستطيع تحديده أخيرًا، إنه يأتي من فتحة أسفل الباب، يتحرك تجاهها؛ فيجد روحه بها تنظر إليه، وبيدها الريح والأمواج، وهنا يتحول الرجل لحجر تأخذه الرياح ليستقر في البحر.

(9)

في بلادنا البحر.. ولم أذهب إلى البحر، ألم يكن هذا شيئًا محزنًا؟ الحقيقة.. كنت أفكر في

الذهاب إلى مدينه البحر، كتكملة للترحال كالدليل، أو كالفراشات، ولكني كنت في متاهة أخرى، متاهة المدينة المقدسة تلك، التي منعتني من فهم حكاية أم مريم عن الرجل الذي، تحول لحجر في البحر بهدف بناء منزل يلاصق حافة الموج، كنت أحلم ببيع الورد بجانب البحر، أن أجعل من البحر بئرًا كما صنع جدي من الحقل بيتًا، أو كما صنع الرجل ذو الواحدة وطنًا من الممرات والورد.

(10)

ذات صباح، في اليوم العاشر من الغضب، وكانت دراجتي أمامه، اقتربت جدًا من دراجتي؛ وإذا بها تنفجر من أثر قنبلة لصقت بها، كنت على بعد خطوتين، انفجرت القنبلة في الورد وفيّ، كنت أرى السحابة السوداء المحيطة بالمكان من أثر الانفجار، وأرى وريقات الورد تتطاير كأشلاء تبحث عن هروب سيفشل، كانت الصورة بجيبي، أصابني الانفجار أنا الآخر، ولكنى ما زلت على قيد الحياة مرة أخرى، المفترض أني ميت الآن، ولكن كُتب لي عمر جديد، أدركت ذلك أيضًا بعد ما نظرت عيناي إلى الغرفة بالمستشفى، الغرفة بها مئات ومئات من الفراشات.. تدور وتدور وهى تصرخ وتصرخ.. كأن هناك من يجلدها أو من يلاحقها ببندقية، كانت الفراشات مختلفة عن تلك التي خرجت من البئر، الفراشات تتخبط في بعضها بعضًا وتسقط ميتة، الغرفة تضيق مساحتها التي يفترض أن تظل هي كما هي، فلا يعقل أن تمتص الفراشات مساحات الأمكنة، أشعر بسريري يكاد يبتلعني ويبتلع الفراشات التي تسقط ميتة.

كنت أودّ الهروب من الشرفة، ولكن كيف لي اليوم أن أرى الشرفة منفذًا للهروب، وأنا الذي يراها دومًا منفذًا للـ هناك وحاضرة الغياب، هل أنا في لحظة موتى؟ وإذا كنت.. فلماذا كل هذا الأذى يلاحق الفراشات؟ لن أموت الآن.. مؤكد، فموت بلا وردة أو فراشة سعيدة، لا يعد موتًا طبيعيًا، الغريب أن جميع الأطباء لم يجدوا حلًا لهذه الفراشات ولا للأطفال أسفل الفراشات، ولا هناك من حل لنزع حجارة من يد طفل يرقد جانبي على سرير ملاصق، كيف لهم بنزع حجر يؤنسه؟ من جديد إني أنزف.. ومن جديد - إذا قدر لي الخروج - يجب أن أعيد المحل لما كان عليه، ومن جديد سأبحث عن ونس لي مثل هذا الطفل الراقد جانبي، نعم.. هذا الطفل الذي تتحدث ملامحه بينما هو نائم، ولكن هذه المرة كانت قوية.. الجراح، كان يزورني الصديق ويطلعني على ما استطاع أن يسجله، كان الأطباء يؤكدون أنه من الأفضل لي عدم الخروج، فقد كانت الجروح قوية ومؤثرة، وكانت قدماي تنزفان كذي الساق الواحدة، كيف لي عدم الخروج؟

تذكرت الدليل وصرخت:

إني مريض لأني لا أرى الورد ومحلى!! أنا كالدليل.. إذا انقضت فترة دون رحيل أمرض!! ولكن الكل لم يكن بحاجة للورد والدليل، نعم.. هم محقون في عدم سماعي ولكني محق في الدفاع عن محلي، بالإضافة إلى أنني أودّ الذهاب للبحر في مدينة أخرى، عامة.. كنا ليلًا، تذكرت بازولينى وتذكرت كلمته:

يجب أن تدافع عما تحب.

استجمعت قوتي وكنت أنزف، تسللت من سريري وخرجت من الغرفة، عبرت الممرات الحزينة، ولم تصاحبني الفراشات، صار باب المستشفى أمامي ومن ورائه الشارع، ها أنا أنفذ ما أريد، وكان ذلك كفيلًا بدعمي بقوة تساعدني ضد النزيف الذي يجتاحني كما تجتاح سيارة وردة مسكينة، عبرت الباب واتجهت بصعوبة لأول شارع، لمحت حجرًا بالأرض يبدو أنه سقط من يد طفل مصاب بينما هم يدخلونه المستشفى.

(11)

جاءني صوت يزحف، ضعيفًا، مقهورًا، حزينًا، صوت ينادى اسمي من بعيد، ويضيف: يا حامل الورد - صفة لي، هذا الصوت أعرفه، كما يعرف الطير مكان الأشجار، إنه الدليل ومن خلفه المرأة التي تسكن جاري، تلك السيدة التي تنتظر عودة ابنها من الأسر منذ عشرة أعوام، وقفت قبل أن ألتقط الحجر، وخرجت منى ابتسامة تحية للدليل، الدليل كان مثلى يتجه باتجاه اللا غد، مكسور - هو - هذه المرة، يخرج من فم الشارع كسراب سيمر، ويمر دون هوادة، السيدة من خلفه تتبعه ناحيتي، قال الدليل:

كيف حالك يا حمل الورد؟

أجبت:

أفقد ذراعًا وأصاحب وجهي المشوه!!

قال:

أتعلم من يملك حقل الرجل ذي الساق الواحدة الآن؟

قلت:

لا.

قال:

أبراهام، الذي شارك جدك الحياة والصورة.

قلت:

إنه عجوز وليس خبيرًا بالزراعة!!

قال:

الحقل بجانبه قرية لهم، وبها طرق مرصوفة، وهو يقود جيشًا من العمال، ولا يتحدث إلا العبرية.

سألت الدليل.. وإلى أين تتجه؟

قال:

أتجه مع هذه السيدة نحو الحدود باتجاه المعتقل لرؤية ابنها.

وأضافت السيدة:

هدموا منزلي في الصباح يا ولدى، ولم يعد هناك مكان لوضع الورد الذي آخذه منك، وأشعر بأني سأموت قريبًا، ولا بد أن يصل مفتاح المنزل إلى ولدى، وهذا الرجل يعرف طرقًا سرية وبعض الأفراد الذين سيوصلون المفتاح لغايته.

سألني الدليل:

ماذا تفعل هنا.. ولماذا لم تظل بداخل المستشفى؟

قلت:

ولماذا لم تتزوج أنت؟

ففهم الدليل والمرأة المعنى الخفي الذي يحركهما أيضًا مثلى تجاه حياة أخرى، انصرفا الاثنان ببطء، ولكن لم تكتمل أهدافهما بعد.

(12)

المرأة التي تريد إعطاء المفتاح لابنها والتي مع الدليل، كانت جارتي بالمنزل، سيدة

طيبة، تصنع الخبز، والقهوة، ثم تجلس ساعات تحدث نفسها، في البداية كنت أظنها مريضة بالجنون، ثم تغيرت نظرتي لها شيئًا فشيئًا، زوجها أصيب من أثر قنبلة صغيرة ومات، ولم يكن لهما غير الابن الذي بالمعتقل، ورغم كل هذا الظلم الناتج من حياة عبثية بمدينة الله الجديدة، فإن هذه المرأة بها إصرار عجيب على انتظار ولدها، وكانت تأتى كل يوم إليّ لتشترى الورد، الحقيقة تأخذ وردة واحدة، وتسميها دائمًا باسم ابنها رضا، كان من ميزة الاسم أنه يحتمل المذكر والمؤنث، وأيضًا يحتمل صفة الشكر في بعض من معناه الشعبي، تدخل المحل؛ فتكون رضا في يدي، ثم بدأت إعطاءها الوردة مجانًا، وهى بالمقابل تهديني الخبز وبعض القهوة، كثيرًا ما تحدثنا وكثيرًا ما جلست بجانبها بينما هي تحدث نفسها، وأحيانًا تغني غناءً جميلًا صافيًا عن أحبة يتلاقون وينعمون بحياة سعيدة، كانت تنام وهي تتحدث، وكثيرًا ما غطيتها، لتنعم بأحلامها في دفء كامل، كانت تسألني عن سبب عزوفي عن الزواج، وتقول:

بمجرد أن يخرج رضا سأزوجه زينة بنات الشارع، ومن الجائز أن تغير رأيك أنت وأخطب لك معه وتتزوجان في يوم واحد.

كنت لا أملك إلا الإجابة بالشكر وأنى أنتظر عودة رضا.

في يوم سألتها عن سبب شرائها لوردة كل يوم؛أجابت:

وردة تعيد رائحة الولد يا بني، وتؤنس البيت إلى أن يعود ولدي.

كانت تمتلك هذه المرأة قدرة الشعراء في التعبير، ليتها كانت تكتب الشعر حقًا.

(13)

الليل أحيانًا يكون ساترًا على لص، وأحيانا يخبئ أشياء ضارة لأناس طيبين، لا نجوم اليوم ولا قمر بسماء مدينة الله الجديدة، فقط.. أصوات وأصوات تتداخل وتتداخل لتصنع ضوضاء وميعة لإنسانية كاملة، كأن هذه الأصوات تختصر الأعمار على خصر امرأة، أصوات سيارات للإسعاف وسيارات لجنود من العدو، صراخ هنا وهناك كأن القيامة الآن.

كنت مازلت مكاني بأول الشارع وعلى مقربة مني يتحرك الدليل وأم رضا، وأسفل قدمي الحجر الذي لمحته قبل الحديث معهما، التقطته بصعوبة بالغة، وإذا بي أعتدل لأقف، فأرى صوت طلقات تستقر فيّ وفى الدليل وأم رضا، الطلقات تستقر كأنها وجدت بيتها عقب لحظة من الشك في وجود هذا البيت، كانت الطلقات متعاقبة كأنهم يضعون بجانب كل حجر طلقة، هل سبق لأحد أن رأى الصوت؟ أو أحس الماء؟ هل من أحد قد سمع الفراشات؟ أو رأى ابتسامات الورد؟ هل من أحد رحل مصحوبًا بقوس مليء بالشعر الأبيض باتجاه الفردوس؟ ها أنا كل هذا الآن، تجيء لحظتي، كما جاءت لمن كانوا قبلي ولمن سيجيء من بعدي.

الرجل ذو الساق الواحدة قال ذات مرة:

ليس لي يوم آخر، وإنما هناك أيام أخر لغيري ولوردة.

(14)

أبراهام يملك حقل الورد وعنده جيش من العمال، هكذا قال الدليل من قبل، ولكن؛ لماذا هذا الحقل تحديدًا؟ ولماذا لم يخبرني عندما قابلني، وهل هو يستقر به أم يذهب هناك كل يوم، ويعود للنوم بالمدينة المقدسة؟ نعم.. الآن أعيد ترتيب الأفكار، أقصد أنني أدرك ذلك الآن وأنا أذهب بلا عودة!! كم هو غريب الرأس الذي لا يفكر، وكم هو محزن ذلك الرأس الذي يدرك الأمور بعد فوات الأوان، أبراهام كان يأتي كثيرًا ويحوم حول محلي، كنت لا أعرفه، فقط أعرف أن عجوزًا يراقب محلي، كل يوم كعادة السيدة أم رضا عندما تأتي لأخذ وردتها الوحيدة، ينظر المحل ويمضي، كثيرًا ما أخبرني العامل معي بهذا، بأن هذا العجوز الذي يحوم حول محلّي لا يأتي إلا في غيابي، وعندما أقابل أبراهام يحذرني، ولا يتحدث إلا العبرية، ها هو الحلم يخرج من رأسي ليتجسد حقيقة، وأتأكد من أن هذا العجوز المراقب لي هو أبراهام!! أفكر أيضًا في سارة، فأجد أنها تعرف محلي ولم تزرني ولو لمرة واحدة، تكتفي بخطابات أشبه بمسكنات من دكتور لا يرى إلا موت مريضه المحقق، لذلك؛ يمكر عليه ببعض الكذب الجميل، سارة على الجانب الآخر تصنع أفلامًا تمجد بلدًا ولد من إعلان للهرب من مسئوليه تحمله في مكان آخر، تشترك سارة مع آخرين في صنع تاريخ عبر شاشة لا يتعدى طولها أكثر من مترين، لماذا عجزت عن فهم كل هذا؟ ولماذا لم أستطع فهم صديقي المخرج.. عندما نصحني بضرورة النظر إلى سارة وجدها على أنهما مجرد ماضٍ، يتوقف عند... حدود البئر وشجرة التين.

(15)

أعود لموتى بعد تلك التقاطعات المرنة الحزينة التي عبرت برأسي، الطلقة في صدري، أعتدل بصعوبة وأبحث عن الدليل والمرأة التي كانت تشترى وردة وحيدة في مدينة الله الجديدة؛ فأجدهما يشكلان منزلًا مرسومًا على الأرض، منزلًا نوافذه من دم وبعض أوراق من الشارع، لم يكن هناك مفتاح بالأرض، فالمفتاح برقبة أم رضا، هكذا تموت الأحلام بسهولة وسرعة في مدينة الله الجديدة / القدس.

رغرغت عيناي بالدموع الأخيرة لي، ولمحت في سكرة الموت روحًا تخرج من طفل، طفلٍ لا ينطق اللام والراء، طفلٍ له قدم أطول من الأخرى، ومع ذلك؛ أحب... وردة /...

صورة /...

فراشة /...

حجرًا / في بلاد الحرب، ثم مات.. في مدينه الله الجديدة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق